حقائق كشفتها الحرب استدعت معادلة السيّد الجديدة
ناصر قنديل
– قدّمت الكلمة الأخيرة للسيد حسن نصرالله نبرة ومناخاً حول الاستعداد لتوظيف فائض قوة المقاومة، بما يلبّي أكثر بكثير من الحاجة للردّ على استهداف المدنيين من قبل جيش الاحتلال، رغم ما يعنيه هذا الاستهداف في منهجية المقاومة وطريقتها في رسم المعادلات. كما كان واضحاً منذ اليوم الأول في خطاب السيد التأسيسي لمنهج التعامل مع الحرب، بوضعه لمعادلة كل الاحتمالات مفتوحة في ضوء مراقبة أداء الاحتلال تجاه ما يجري في غزة والسلوك تجاه المدنيين في جنوب لبنان، بل إن الاستهداف بذاته الذي وصفه السيد بـ”المتعمّد”، كشف معادلة استدعت مقاربة جديدة من المقاومة، هي التي تفسّر هذه النبرة وهذا المناخ والاستعداد لتسييل فائض القوة وصولاً إلى إشارة واضحة أن المقاومة سترفع سقوفها الى حد تجاوز الحذر من تدحرج الأمور نحو حرب كبرى، خشية أن يكون هذا الحذر قد قُرئ خطأ في كيان الاحتلال، فلم يقابل بمثله، بل تم التعامل معه كنقطة ضعف تتيح لجيش الاحتلال الذهاب الى أبعد في استخدام فائض قوته.
– السلوك تجاه المدنيين وما يجري في غزة يحملان معنى واحداً، هو أن الاحتلال يظهر للمقاومة استعداداً بالمخاطرة، وجدت أن الرد عليها يستدعي منها تفعيل معادلة الاحتمالات المفتوحة التي وضعتها للتعامل معهما منذ بداية الحرب، ذلك أن المسار التفاوضي حول إنهاء الحرب في غزة من جهة وتلويح الاحتلال باستخدام المزيد من فائض قوة القتل والتدمير في غزة، يقولان إن نجاح المقاومة في غزة في صناعة معادلات القوة والصمود وإلحاق خسائر فادحة بجيش الاحتلال من جهة، وحجم ما ترتّب على الطوفان وما بعد الطوفان من تشققات وأزمات في الكيان، من جهة ثانية، والشعور بالعزلة الدولية وخسارة حرب الرواية أمام الفلسطينيين، من جهة ثالثة، كلها تحولات كبرى لكنها لم تنتج التراجع الذي يصنع فرص التوصل إلى اتفاق يوقف الحرب وينجز تبادل الأسرى بشروط مقبولة من المقاومة.
– الحقائق التي كشفتها الحرب التي تكاد تنهي الشهور الخمسة تقريباً، هي: أولاً، أن سمة الحروب القصيرة لجيش الاحتلال وتفادي طول أمد الحرب، حقيقة لكن فعلها لا يؤدي إلى الاستعداد للتراجع عندما يستشعر الكيان خطراً وجودياً، وما فعله الطوفان هو أنه أطلق الديناميكيات التي تشكل منهج سلوك الكيان في حال المأزق الوجودي، وهي مغايرة لتلك التي ترسم سلوكه في الحروب الأخرى. وثانياً، أن التوحش الإسرائيلي غير المسبوق وما نتج عنه في الرأي العام الغربي وما تسبب به من ضغوط وعزلة، لا يتحوّل الى سبب لفرض الانعطاف في مسار الحرب ما دام الدعم الأميركي مستمراً، سواء في تقديم الإمداد اللازم للمضي في الحرب أو الحماية القانونية من المساءلة، ولو تمّ إرفاق الدعم ببعض النصائح التي لا تتحوّل إلى شروط. وثالثاً، أن الدعم الأميركي مستمر طالما أن خطر هزيمة كبرى ينتظر الكيان تدرك واشنطن أن الحؤول دون تأثيرها على حجم النفوذ الأميركي في المنطقة ومهابة الردع الأميركي عموماً أمر مستحيل. ورابعاً، أن التوازن السياسي والشعبي داخل الكيان رغم الحرب لا يزال راجحاً لصالح خيارات اليمين، وتوجهاته القائمة على أن ما لا تحله القوة يحله المزيد من القوة، وما لا يفرضه التوحش يفرضه المزيد من التوحش. وخامساً، أن الشارع العربي الذي كان تحركه محدوداً قد تكفل، مع مشهد الحرب وموازينها، بأن يلجم اندفاعات النظام العربي للمشاركة في التآمر على المقاومة، لكنه لم يبلغ مدى يتيح له أن ينقل أي مصدر قوة إضافي الى صف المقاومة.
– إن هذه الحقائق تقول إن الحرب لا تزال هي الميدان الذي يجب أن يرسم صورة جديدة تؤدي الى أحد أمرين، الحرب الكبرى التي تنتهي بنصر حاسم، أو فرض اتفاق في منتصف الطريق يلبي الحد الأدنى من شروط المقاومة وصيانة نصرها المحقق في الطوفان، لتفادي الانزلاق إلى الحرب الكبرى من جانب الكيان ومن خلفه الموقف الأميركي. وهذا يستدعي استحضار خطر الحرب الكبرى ووضعه على الطاولة. وهذا فوق طاقة المقاومة في غزة، ويحتاج إلى تعديل منهجية المساندة التي تقدّمها قوى محور المقاومة ودوله، وفي طليعتها المقاومة في لبنان. وهذا هو ما يحاول الكيان فعله مع قوى المقاومة وفي طليعتها المقاومة في لبنان، وهو ما جاءت ترجمته في ميدان التعامل مع ملف استهداف متعمّد للمدنيين.
– ليس وارداً عند محور المقاومة التأقلم مع فرضية تراجع المقاومة في غزة، عبر اتفاق يفرض عليها بقوة الاستفراد، لأن لذلك مترتبات على كل المشهد الإقليمي وتوازناته منذ تحرير جنوب لبنان عام 2000، وصولاً إلى معادلات الردع الجديدة في حرب عام 2006 وما بعدها من حروب في غزة، وكذلك لأن هذا يعني إعادة إنتاج صورة الردع الإسرائيلي التي تآكلت على مدى عقود، ولهذا تداعيات على كل مسارات وموازين وجبهات المنطقة، سواء ما يتصل بحضور “إسرائيل” العسكري والسياسي، أو ما يتصل بمكانة أميركا وقدرتها على إدارة الإقليم كقوة عظمى تشعر هي الأخرى بالتراجع والعجز.. وأيضاً وأيضاً لأن التراجع في وضع المقاومة في غزة سوف يرسم مشهداً فلسطينياً جديداً، يتمّ تحميل خيار المقاومة فيه مسؤولية التسبّب بكارثة إنسانية، واعتباره خياراً متهوّراً عاجزاً عن تحقيق الانتصارات، كما كان يعِد. وهذا سيؤدي الى إعادة إنعاش كل الخيارات التي تجتمع عند نقطة الذهاب أكثر الى التسليم بما يرسمه الأميركي والإسرائيلي باعتباره مجدداً قدراً لا يُردّ.
– معركة غزة صارت اليوم معركة إثبات جدوى خيار المقاومة، وهي تكاد تصبح معركة وجود بالنسبة لقوى محور المقاومة ودوله.