ما هي وظيفة حروب الاحتلال وحروب المقاومة؟
ناصر قنديل
تكثر الفذلكات على قوى المقاومة في طرح أسئلة من نوع ماذا تجدي حروبكم؟ وماذا ينتج عنها؟ فيطرح السؤال نفسه بوجه المقاومة في غزة عن طوفان الأقصى وجدواه ويربطه الذين يتساءلون دائماً بحجم الخسائر، في تأدية منضبطة منهم بوظيفة حروب الاحتلال عبر التاريخ، وهي تكبيد الشعوب كمية من الألم ثمن رفضها للاحتلال، للقول إن لا جدوى من الاعتراض، وإن التأقلم مع ذل الاحتلال أسهل وأقل كلفة. وهو السؤال الذي يوجه إلى اليمنيين للتساؤل من بعض التافهين ماذا أفدتم غزة؟ والسؤال أيضاً تضج به وسائل التواصل ومنصات الإعلام بوجه المقاومة في لبنان عن الكلفة الناجمة عن فتح الجبهة والسؤال عن ماذا حققت من مكاسب لصالح لبنان وغزة؟ لذلك لا بد من طرح الأسئلة الأصلية حول وظيفة حروب الاحتلال ووظيفة حروب المقاومة عبر التاريخ.
يعرف المحتل أنه يغتصب حقاً ليس له، وأنه يطلب بعضاً من حقوق الغير بلا وجه حق، ولذلك فهو يجرّد سلاحه ويخوض حرباً لها وظيفة، وهو يدرك أن السلاح لا يحقق له ما يطلبه بصورة تلقائية. بمعنى أن السلاح لا يحمل الأرض على فوهات البنادق وسبطانات المدافع وجنازير الدبابات ويأتي بها للمحتل، وإذا كان المطلوب السطو على منابع المياه والنفط أو الثروات الاقتصادية أو تطبيع العلاقات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، لأن الأسلحة لا تجلب ذلك بذاتها، ولا النيران تحقق هذه الأهداف. وما تفعله الحروب والأسلحة والنيران، هو التسبب بالألم، وتكبيد المعنيّ خسائر، والهدف مخاطبة عقله، للقول إن كلفة الرفض مرتفعة وإن باستطاعته التخلّص من هذا الألم وتفادي المزيد من الخسائر بالخضوع، والتأقلم مع أن ما هو له لم يعد له ولن يعود له برضاه، وأن التنازل عن هذا الحق أقل كلفة من التمسّك به والعناد. فلا جدوى من العناد. والهدف الأبعد للحروب هو ترويض عقل صاحب الحق المستهدف ليرضي غروره ويتصالح مع مزاعم رجولته وأكاذيب سيادته، فينتقل إلى الترويج للاستسلام، ويسمّيه سلاماً أو عملاً حضارياً أو حواراً بين القوميات والأديان والأعراق، أو مصلحة أو ينتقل للحديث عن الإنسان الجديد الذي لا يقيّده وطن ولا قضية ولا دين.
بالمقابل تهدف حروب المقاومة إلى إثبات حقيقتين، أي مخاطبة العقول، من موقع إدراك أن السلاح لا يجلب الأرض الخاضعة تحت الاحتلال على فوهات البنادق، ولا يسوّر المياه والثروات المستهدفة بسور من نار، بل يقوم السلاح وتقوم النيران بإنتاج حقائق، تحفر في العقول، فتقول للمحتل إن استخدام القوة لن يجدي في فرض سيطرته وهيمنته والحصول على صك الشرعية للاحتلال ونهب الثروات. مهمة السلاح فقط هنا هي التعطيل، وإثبات الاستحالة، واللاجدوى، وبالتوازي إنتاج حقيقة ثانية في عقول الشعوب المعنية بقول كلمة الفصل حول حقوقها، بأن ليس قدرها أن تستسلم وأن بمستطاعها قول لا، ورفض التأقلم مع سقوط الحق وسلب الثروات ونهبها، والحرب التي تدور ظاهرياً في الميدان، وتسقط فيها الدماء والأبنية والمنشآت، هي تدور فعلياً في العقول، عقول الناس المعنية. فإن نجحت حرب المحتل بزرع الاستسلام قدراً كان له النصر، وإن نجحت المقاومة بإفهام المحتل بأن لا جدوى لحروبه، ونجحت بإقناع الشعوب المعنية بأن تنضم الى فكرة المقاومة ورفض الاستسلام، انتصرت المقاومة. وهذا ما حدث في جنوب لبنان خلال ثمانية عشر عاماً من المقاومة، فتحقق التحرير يوم اقتنع الاحتلال بلا جدوى بقائه، واقتنعت نسبة كبيرة بما يكفي من الشعب بجدوى المقاومة. ولمس الاحتلال أنها نسبة آخذة في التصاعد ولا جدوى من المكابرة بالرهان على تذويبها عبر اللجوء إلى المزيد من القوة.
ما يجري الآن هو أن المقاومة في غزة منذ الطوفان وخلال خمسة شهور تقريباً، تقول عبر حربها إن القضاء على القضية الفلسطينية وتحويلها الى قضية ترتيبات أمنيّة للاحتلال وقضية شروط البقاء على قيد الحياة للفلسطينيين، أمر مستحيل ولو تجنّد له كل العالم ووافق عليه كل العرب وارتضاه جزء من الشعب الفلسطيني وقيادته، وأن قضية الحق الفلسطيني هي قضية سياسية جوهرها الهوية، وأن الرهان على الزمن وعلى القتل وعلى الحصار والتجويع وزيادة الألم ومرارة الخسارة لترويض الفلسطينيين على تقبّل الرضوخ ونسيان أن لهم قضية وهوية، لن يجدي. والسؤال الأول هو هل نجحت المقاومة؟ الجواب هو نعم بكل تأكيد. والجواب الإضافي هو أن كل من يتحدث عن الخسائر والآلام ليس الا اللواء الإضافي في جيش الاحتياط الإلكتروني للاحتلال. والسؤال المقابل هو هل نجح الاحتلال؟ والجواب هو لا بالتأكيد، حتى الآن على الأقل. وبالمثل هل نجح اليمن بالقول إن أي رهان على إنهاء القيود التي فرضها على الملاحة في البحر الأحمر والتخلص من هذا الإزعاج التجاري ممكن عبر ((القوزة))، هو وهم، وإن لذلك طريقاً واحداً هو وقف الحرب على غزة، أي الاعتراف بأن هناك قضية لا تحل عن طريق المزيد من القوة. فهل نجح اليمن؟ والجواب هو نعم. وبالمقابل وظيفة الحرب الأميركية البريطانية هي القول إنه لا يمكن لليمن ان يتسبب بهذا الإزعاج دون أن ينال العقاب حتى يتراجع وتبقى فلسطين وحدها. فهل نجحت الحرب الأميركية البريطانية؟ والجواب هو لا بالتأكيد. وبالمثل هل نجحت المقاومة في لبنان ومعها اليمن والعراق بالقول للفلسطينيين لستم وحدكم؟ وهل نجحت بالقول إن هناك أزمات إضافية ستكبر وتتعاظم ما لم يتم وقف الحرب على غزة؟ وهل نجحت بالتسبب بإرباك لجبهة الاحتلال وداعميه ووضعهم في خيارات صعبة منها البحث بفرص وشروط خوض حرب أخرى فيما هم منهمكون بحربهم على غزة؟ والجواب هو نعم بالتأكيد. والسؤال المقابل هل نجح الأميركي والإسرائيلي عبر التهديد والقتل والنيران بثني العراق ولبنان واليمن عن مساهمتهم لتعزيز فكرة أن عدم التسليم بلا جدوى الحرب على غزة يهدّد بتفجير المنطقة؟ والجواب هو أن الأميركي والاسرائيلي قد فشلا بالتأكيد، حتى الآن على الأقل.
هذه آخر مرة نضطر فيها إلى شرح البديهيات للذين يريدون جعلها موضع تساؤل، مع لفت النظر إلى أن الذين يقومون بنصرة غزة، بوجه الأعداء أنفسهم الذين يستهدفون بلادهم ويستهدفون مقاومتهم، إنما يخوضون حرباً استباقية يفهمون عبرها أعداءهم أن الحرب معهم ليست نزهة، وأن الأفضل لهم أن يصرفوا النظر عن التفكير بخوضها، والبحث عن حلول تفاوضية سياسية. هذا ما يقوله لبنان والعراق واليمن، عبر مساندة حرب المقاومة في غزة أيضاً.