«التخبيص ماشي… والبلد مش ماشي»
أحمد بهجة*
كان العنوان الأبرز في لبنان خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديداً منذ 17 تشرين الأول 2019 وانفجار الأزمة المالية بشكل كارثي، بعدما كانت كامنة طوال سنوات سابقة كالجمر تحت الرماد، كان العنوان أنّ الحكومة لم تفعل شيئاً من أجل معالجة هذه الأزمة أو على الأقلّ لم تضع الأسس المناسبة للانطلاق برحلة الألف ميل والسير على سكة الحلّ حتى لو أخذت الأمور بعض الوقت لكي يبدأ اللبنانيون بتلمّس النتائج المرجوة.
وحين نقول إنّ أيّ شيء لم يتحقق على صعيد المعالجة، فإننا نعني كلّ الملفات والأزمات والقضايا التي تتوالد من بعضها البعض، حيث أنّ وسائل الإعلام لا تكاد تلتقط أنفاسها من متابعة قضية ما حتى تبرز قضية أخرى تأخذ صدارة الاهتمام لتأتي قضية ثالثة… وهكذا إلى أن تصبح كلّ القضايا مهملة ومنسيّة، خاصة إذا أضفنا القضايا الإقليمية التي تنعكس حكماً على أوضاعنا الداخلية، لا سيما أننا نعيش هذه الأيام مرحلة حرب فعلية ضدّ العدو «الإسرائيلي»، وهو ما يتطلب المزيد من الروية والحكمة في مقاربة مثل هذه المسائل.
بالتأكيد الأمور معقدة وشائكة، لكنها ليست عصية على الحلول إذا توافرت الإرادة والشجاعة والجرأة لاتخاذ القرارات المطلوبة، خاصة أنّ هناك الكثير من العروض التي تجعل البلد يبدأ بالصعود من الهاوية السحيقة التي انحدر إليها بفعل سياسات اقتصادية ومالية خاطئة استمرّت لسنوات طويلة تخللتها خطايا قاتلة ارتكبها عدد غير قليل من الذين كانوا يمسكون بمفاصل القرار المالي والنقدي، وتحديداً في مصرف لبنان ومَن معه من سياسيين وأصحاب مصارف ورجال دين وإعلاميين…!
وبدلاً من الالتفات إلى تلك العروض الكثيرة والمغرية التي من شأنها وضع الاقتصاد الوطني على سكة الانتعاش والنمو، نجد أن ما يحصل هو المزيد من القرارات والسياسات السيئة التي تعمّق الهوة وتجعل مهمة الإنقاذ أصعب وأكثر تعقيداً…
أليس هذا بالضبط ما جرى إزاء القرار العشوائي بإعطاء حوافز مالية لعدد محدود من موظفي القطاع العام وإهمال الآخرين الذين يحتاجون أيضاً إلى الحوافز والزيادات على رواتبهم التي انعدمت قيمتها الشرائية وباتوا مع عائلاتهم عاجزين عن تأمين أبسط مقوّمات الحياة.
حجة مَن اتخذ القرار بإعطاء الحوافز والزيادات لبعض الموظفين أنّ هؤلاء يعملون في دوائر رسمية مهمّتها تحصيل الأموال وجباية الرسوم والضرائب، وبالتالي لا بدّ من توفير الظروف المناسبة لهم لكي يقوموا بعملهم على أكمل وجه حتى تتمّ تغذية الخزينة العامة بالأموال الأمر الذي يعطي الحكومة القدرة على الاهتمام ببقية موظفي القطاع العام.
قد تكون هذه الحجة صحيحة، ونحن مع أن يحصل الموظفون على الحوافز المطلوبة لتزيد إنتاجيتهم، لكن ما تبيّن في الحقيقة أنّ قرار إعطاء الحوافز لم يشمل كلّ الموظفين الذين يعملون في دوائر لها علاقة بتحصيل الرسوم والضرائب، فيما حصل عليها موظفو إدارات أخرى لا علاقة لها بتحصيل الأموال لا من قريب ولا من بعيد!
إذن القرار عشوائي بالفعل، وفيه الكثير من الاستنسابية، وأكثر من ذلك تبيّن أنّ عدداً من الوزراء ليسوا على علم بصدوره عن مجلس الوزراء، وقد تأكد هذا الأمر حين طلب رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي من وزير المال يوسف الخليل وقف العمل به، لأنّ القرار المتخذ في مجلس الوزراء يلزمه قرار من مجلس الوزراء لوقف العمل به وليس مجرد طلب من رئيس الحكومة.
لذلك تمّ الاتفاق على أن يكون هذا الأمر مطروحاً للنقاش على طاولة مجلس الوزراء في أول جلسة يعقدها هذا الأسبوع، وما نأمله فعلاً هو أن يتوقف «التخبيص»، وأن يتمّ وضع خطة شاملة استناداً إلى دراسات متكاملة لمعالجة أوضاع القطاع العام ليس فقط لناحية الاهتمام بالموظفين وتحسين مداخيلهم، وهذا مطلوب طبعاً حتى ولو على مراحل، لكن أيضاً يجب أن تشمل الخطة تفعيل هذا القطاع العام الضخم بكلّ مؤسساته ومرافقه، وتعزيزها ودعمها بما تحتاجه لكي تحقق أعلى قدر ممكن من الإنتاجية، ومعالجة الأسباب التي دفعت بعض المؤسسات والإدارات إلى إقفال أبوابها مثل الميكانيك والدوائر العقارية وغيرها.
على أن يترافق ذلك مع خطط للتعافي المالي والاقتصادي والمصرفي، وتهيئة الأجواء والظروف المناسبة لعمل القطاع الخاص الذي يُفترض أن يتكامل مع القطاع العام في تحقيق المستوى المطلوب من النمو والتنمية…
*خبير مالي واقتصادي