رسالتان بمضمون متكامل من إسقاط الطائرة الإسرائيلية «Hermes – 450» في جنوب لبنان إلى إحراق ضابط أميركي نفسه أمام السفارة «الإسرائيلية» في واشنطن
د. حسن أحمد حسن*
قد يبدو عنوان المقالة إشكالياً بعض الشيء، أو قريباً من التناقض إلى حدّ ما، أو ــــ على أقلّ تقدير ـــ لا علاقة لإسقاط الطائرة «الإسرائيلية» بإحراق الجندي الأميركي نفسه، لكن بالتدقيق الموضوعي وقراءة مضمون الرسالتين بتمعّنٍ وروية تتضح صورة أخرى يجب التوقف عند مضامينها ودلالاتها الغنية والمتعددة والمهمة، لا بل أستطيع الذهاب إلى أبعد من ذلك إلى درجة القول إن الرسالتين متكاملتان لعنوان رئيس وعناوين أخرى فرعية متعلقة به بشكل أو بآخر، فإقدام طيار أو ضابط أو حتى عنصر عادي من القوات الجوية الأميركية على إضرام النار بنفسه أمام السفارة الإسرائيلية في قلب واشنطن حدث غير تقليدي وغير مسبوق، وما رافق الحدث وتلاه يتطلب التوقف عنده، وقراءة كل ما يتعلق به، ومن المفيد هنا الإشارة إلى عدد من النقاط المهمة، ومنها:
*الفعل الذي قام به الجندي الأميركي يتجاوز احتجاجه على الوحشية الإسرائيلية وارتفاع عداد الضحايا في صفوف الأطفال والنساء من أهل قطاع غزة، ويصل إلى مناهضة سياسة الإدارة الأميركية ذاتها، وهذا ما أشارت إليه صحيفة «بوليتكو» الأميركية واصفة موت الجندي «آرون بوشنل» بأنه يمثل (ذروة موجة عدم الرضى المتنامية ضدّ سياسة البيت الأبيض بشأن غزة)، وإذا كان التعبير عن هذه الموجة غير المسبوقة من السخط والرفض لسياسة البيت الأبيض قد وصلت قطاع الجيش الأميركي، فهذا يحمل إمكانية التعبير عن ذلك بأساليب أخرى تترك آثارها على الرأي العام الأميركي، وبخاصة بعد موجة من التظاهرات والاحتجاجات الكبيرة التي شهدتها شوارع واشنطن ونيويورك وغيرهما من المدن الأميركية للمطالبة بوقف حمام الدم الفلسطيني المتدفق بغزارة منذ قرابة أربعة أشهر ونصف.
*لم تُخفِ الصحيفة الأميركية المذكورة خشية المؤسسة الحاكمة من أن يؤدي حادث «بوشنل» إلى تبلور مزيد من الأفعال العلنية لموظفي الدولة أو عناصر في مختلف أفرع القوات المسلحة للتعبير عن مشاعرهم ضد السياسات الراهنة، وما يدل على مشروعيّة هذه الخشية ظهور الجندي الأميركي بلباسه العسكري وهو يضرم النار بنفسه، وهذا بحد ذاته رسالة خطيرة مفادها أن الإدارة الأميركية في طور الانتقال من إطلاق النار على أقدامها إلى إمكانية إطلاق النار على الرأس.
*اختيار الجندي الأميركي للعبارات التي قالها في الفيديو الذي صوّره وتمّ تناقله بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي يتكامل مع اختيار المكان «من أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن»، وهذا يؤكد وجود شرخ حقيقيّ لم يعد بالإمكان إخفاؤه داخل المجتمع الأميركي، حيث الدعم والتبني والمشاركة والتماهي مع الوحشية الإسرائيلية من قبل إدارة بايدن والعديد من المؤسسات والمفاصل الحاكمة في دورة صنع القرار الأميركي، وعلى الضفة الأخرى المقابلة تتسع الانقسامات وتزداد أفقياً وعمودياً في الشوارع وأماكن العمل والجامعات، وتصل إلى داخل الكونغرس الأميركي نفسه، ومن شأن استمرار الحالة وتفاقمها أن تقلق راحة البيت الأبيض والعاملين فيه، بل وأن تتحوّل إلى رافعة تمتلك القُدرة على إعادة تشكيل الرأي العام الأميركي. ومثل هذا الواقع يصلح للبناء عليه، والاستثمار فيه بشكل ممنهج ممن لا يذعنون لإملاءات السياسة الأميركية، أي أن الحدث يشكل تحدّياً لإدارة بايدن، ومن المفيد العمل على تحويله إلى تهديد، وقطع الطريق على الأميركي ومنعه من تحويله إلى فرصة.
*الحادثة بكليتها تدلّ على الرفض الكلي للإفراط في الوحشية الإسرائيلية المدعومة أميركياً ضدّ الشعب الفلسطيني في غزة، وضرورة وضع حدّ للعربدة الإسرائيلية التي ما كان لها أن تبلغ ما بلغته، ولا أن تستمر إلا بمباركة ورعاية أميركية مباشرة، وقد يكون هذا الأمر مناسباً لاستخدامه من قبل بعض الأطراف الراغبة في الخروج ـــ ولو قليلاً ــــ من تحت العباءة الأميركية التي ازدادت الثقوب المتسعة في تلافيفها الداخلية.
بالانتقال إلى الرسائل المتعددة المتضمّنة في إسقاط الطائرة المسيّرة الإسرائيلية: («Hermes 450») يمكن التوقف أيضاً عند عدد من العناوين العريضة والأفكار المهمة، ومنها:
*للمرة الأولى يعلن حزب الله بشكل عملي وميداني عن امتلاكه منظومة دفاع جوّي متطورة بما فيه الكفاية لأخذها بالحسبان، فالصواريخ التي تتمكن من مشاغلة القبّة الحديدية وملحقاتها، وتستطيع استهداف مثل هذا النوع المتطوّر من الطيران المُسيّر الإسرائيلي قد يكون بإمكانها التعامل مع الطيران الحربي المقاتل والمقاتل القاذف، وفي حال ثبتت صحة هذا الاستنتاج، فالكثير من قواعد الاشتباك القائمة ستشهد إدخال تعديلات جوهرية على طرفي المعادلة، وليس بإمكان أشدّ عتاة التطرف في حكومة نتنياهو تجاهل هذه الحقيقة، ولا القفز فوقها قط.
*ذكرت القناة/14/ في الإعلام الصهيوني أنّ «إسرائيل» لم تتفاجأ من قدرة حزب الله، وإنما من جرأته على إسقاط المُسيّرة باعتبارها خطاً أحمر حدّدته، وهذا يعني الكثير، ومما يعنيه:
ـ اعتراف إسرائيلي علني بأنّ لدى حزب الله منظومات دفاع جوي متطورة، وقد يكون لديه ما لا تعلمه استخبارات الكيان المؤقت وأجهزته المختصة. وهذا قد يربك الحسابات، ويخلط الأوراق المصنفة ضمن «قواعد الاشتباك التقليدية» في أيّ تطور دراماتيكي للصراع في المنطقة.
ـ إعلان القناة العبرية المذكورة عن مفاجأة «إسرائيل» بجرأة حزب الله هو محض كذب وافتراء، وجزء من الحرب النفسية والحرب على الوعي الموجه للداخل الاستيطاني من جهة وللرأي العام في المنطقة من جهة أخرى، وما يؤكد ذلك بقية الكلام الخاص بأن المفاجأة من الجرأة تستند إلى اعتبار أنّ «إسقاط المسيرة الإسرائيلية المتطوّرة خط أحمر حدّدته تل أبيب» وهذا بدوره يمثل اعترافاً رسمياً بعجز حكومة نتنياهو عن فرض خطوط حمراء، وقدرة حزب الله على تحديد قواعد الاشتباك التي تناسبه في التعامل حتى مع ما تعتبره تل أبيب «خطوطاً حمراً».
*إسقاط المُسيّرة الإسرائيلية («Hermes 450») أتى بعد تهديدات وزير الحرب الإسرائيلي غالانت بتوسيع دائرة الحرب، وتأكيد رفع سقف استهداف الداخل اللبناني وبقاء الجبهة مشتعلة حتى لو تمّ التوصل لتوقيع اتفاق لتبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية، وقد جاءت تصريحات غالانت وتهديداته في زيارة له للمنطقة الشمالية، وكأنه يريد إيصال رسالة طمأنة لعشرات آلاف المستوطنين الذين أرغموا على ترك المستوطنات جراء الخوف من أي تداعيات تفرضها الأعمال القتالية التي فرضها حزب الله على امتداد الجبهة الجنوبية مع فلسطين المحتلة من رأس الناقورة إلى جبل الشيخ، ومن البدهي أن إسقاط الطائرة المُسيّرة الإسرائيلية واعتراف العدو بذلك ينسف رسالة الطمأنة من جذورها، بل ويضيف مخاوف جديدة لدى المستوطنين، ولدى جيش الاحتلال وقادته قبل غيرهم.
خلاصة
لا يشك عاقل بأنّ لدى الكيان المؤقت قوة تدميرية كبيرة، وأنه مدعوم من الولايات المتحدة الأميركية وكلّ من يدور في فلكها، وأنّ ازدياد الدمار والكثير من الكوارث والمآسي سيكونان عنوان المرحلة المقبلة إذا خرجت الأمور عن السيطرة واشتعلت المنطقة، وفي الوقت نفسه يدرك كل المسؤولين والمستوطنين في كيان الاحتلال أنه ليس الوحيد القادر على إلحاق الأذى والدمار، وأن كل ما يمتلكه وحاميته واشنطن لا يستطيع ضمان أمنه وسلامته، ولا يستطيع التنبّؤ بما قد تتمخض عنه نتائج جولة جديدة غير محسوبة من المواجهة المفتوحة، كما يدرك من يخوضون هذا الفصل الجديد من «الحرب على الوعي» أنّ «إسرائيل» فقدت التعاطف العالمي الذي كان سائداً طيلة العقود الماضية، وأنّ ما أقدمت عليه جنوب أفريقيا والبرازيل وفنزويلا وغيرها لن يكون صرخة منعزلة في وادٍ، بل جميع المؤشرات تدلّ على أنّ تآكل الهيبة والردع تجاوز الكيان الإسرائيلي ليصل إلى المايسترو الأميركي المتخبّط في كيفية التعامل مع المتغيّر الجيوبولتيكي الجديد الذي فرضه اليمن العزيز المقتدر في باب المندب والبحرين الأحمر والعربي، وواهمٌ من يظنّ أنّ لغة القوة والتهديد والوعيد ودبلوماسية البوارج والأساطيل يمكن أن تخيف من علّموا الكون معنى الرجولة والكرامة والإباء والعنفوان.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية