تهافت المنظرين والمحللين… وألقابهم وتوصيفاتهم!
د. عدنان منصور*
مع تطورات الأحداث السياسية والاقتصادية والعسكرية في لبنان والمنطقة والعالم، نلاحظ في لبنان كما في غيره، منذ عدة سنوات، تقوم محطات التلفزة بسباق إعلامي لافت، يضمّ في صفوفه عدداً كبيراً ممن يطلقون عليهم صفة محللين، ومفكرين، وخبراء سياسيين، وباحثين استراتيجيين، وأكاديميين و…
في كلّ مرة يطلّ بها أحدهم على شاشة التلفزة أو الإذاعة، لا يكتفي المضيف بالتعريف عن الضيوف بالسيد أو الأستاذ أو الدكتور فلان، أو الإشارة الى وظيفته فقط، بل يغدقون عليهم ألقاباً إضافية طنانة رنانة، غالباً ما تكون فضفاضة على معظم حامليها، وإنْ استحقها البعض منهم. إذ أنّ تعميمها على ما هبّ ودبّ، وأين ما كان، وكيف ما كان، يسيء كثيراً الى القناة وأيضاً الى الضيف أكثر مما يفيده، اللهم إلا اذا ما طلب الضيف وأراد ان يُعرّف عنه مسبقاً، بصفات غالباً ما تطغى عليها الهالة، والمبالغة التي لا تعبّر عن حقيقة وواقع حال الضيف.
كم هي حافلة الشاشات والإذاعات بالخبراء، والمفكرين، والسياسيين، و»العقائديين»، والباحثين الأكاديميين، والمحللين الاقتصاديين والماليين، و»العسكريين الاستراتيجيين»، الذين يتناسلون يوماً بعد يوم، ليتنافسوا مع أكبر وأعرق مراكز الأبحاث والدراسات السياسية، والعسكرية والأمنية في العالم.
حسناً استضافة خبراء اختصاصيين فعليين في مجالات عديدة، أكانت سياسية أو علمية، أو اقتصادية، أو مالية، أو نقدية، أو عسكرية، أو أمنية.
لكن أن يطلّ على شاشات التلفزة والإذاعات، هذا الكمّ الجارف، ممن يطلقون على أنفسهم صفة خبراء، وهم أبعد ما يكونون عن الخبرة العميقة البنّاءة والتحليل السليم. فهذا الأمر غير مقبول، يثير الاشمئزاز في نفوس المشاهدين والمستمعين ويستخفّ بهم وبعقولهم.
ليس كلّ من نال شهادة جامعية عليا، او تقلّد وظيفة عامة أو خاصة، أصبح بحكم الأمر الواقع خبيراً في الشأن الذي يتعاطاه. إذ في كلّ مرة يطلّ «محلل» جديد ما على شاشة التلفزة أو الإذاعة، يقدّم للمشاهدين والمستمعين، ليعرّفوا عنه، ويغدقوا عليه صفة الخبير والمفكر والباحث، الاستراتيجي، ما يجعلني ألجأ بفضول الى البحث عنه في غوغل scholar، أو غيره من المواقع البحثية الأخرى، كي آخذ فكرة عن صاحب العلاقة، والبحوث التي نشرها في المراكز التخصصيّة الدولية، أو النشرات والمجلات الأكاديمية المرموقة والمعروفة، ذات الصلة بالمواضيع السياسية، والتاريخية، والاقتصادية، والعلمية، والمالية، والعسكرية وغيرها، التي قدّمها، والمعترف بها عالمياً. وإذا بي لا أرى اسماً له ولا بحثاً، ولا دراسة!
أحد مدراء البرامج السياسية في قناة مرموقة أتى لعنده أحدهم، متمنياً عليه أن يظهر في برنامج سياسيّ. فسأله المدير اذا ما كان يريد ان يطلّ بصفة محلل سياسي، فأجابه قائلاً «بكل تواضع»: بصفة «خبير في الشؤون السياسية الاستراتيجية». قام المدير بالبحث عن هذا «الخبير الاستراتيجي» لأخذ المعلومات الوافية عنه، فتبيّن له، أنّ هذا «الخبير» لم يسبق له أن نشر مقالة، أو دراسة، أو بحثاً، أو كتاباً، أو أيّ موضوع يشير إليه كـ «خبير في الشؤون السياسية الاستراتيجية».
من المثير للسخرية، عندما لا يتردّد «محلل» من المحللين، من أجل إضفاء هالة على نفسه، من أن يبث «معلومة» لا يعرفها غيره، وكأنها معلومة حصرية به، ليقول للمحاور او المحاورة بكلّ ثقة وتباهٍ: «خذ هذه المعلومة»، و»إليك هذا السر»! وإذ لا أساس من الصحة لهذا السرّ أو تلك المعلومة، بل هما من نسج خيال من روّج لهما، ليصدّقها في ما بعد من يصدّقها عن جهل أو غباء.
كيف يمكن لخبير اقتصادي او مالي ان يجمع في «تحليله» لأزمة اقتصادية معينة في لبنان، السياسة والاقتصاد، والمال في آن معاً، وكأنه عليم في كلّ شيء، دون أن يدرك أنّ لكلّ موضوع اختصاصه وخصوصيته. فإذا به يحلل الأزمة المالية بطريقة خبط عشواء، قد يؤثر على المواطن البسيط بكلامه، وصوته المرتفع، وحماسه، واندفاعه، وانفعاله، وحركات يديه التي لا تتوقف صعوداً ونزولاً، يميناً ويساراً، لحين يجد المشاهد نفسه أنه مضطر للانتقال الى قناة أخرى او إقفال التلفزة، بسبب استخفافه بعقول المتخصّصين في شؤون النقد والمال، والمصارف، والاقتصاد.
هل يُعقل لشخص يدّعي أنه خبير اقتصادي يعتبر انّ أزمة النقد، وانهيار الليرة، وارتفاع الدولار مرتبطة بالسياسة وحدها؟! وانّ الدولة تستطيع تخفيض العملة متى أرادت ذلك! وانّ ارتفاع سعر الدولار وتراجع الليرة سببه سياسي بحت!
كيف يمكن لـ «محلل» و»خبير» سياسي، أن يطلق العنان لنفسه، عندما يُسأل عما سيدور من حديث أثناء اجتماع سيُعقد بين مسؤول عربي رفيع المستوى ووزير خارجية دولة كبرى، فإذا بهذا المحلل العظيم يضع نفسه مكان الاثنين معاً، ويبدأ بنسج الحديث الذي سيدور بين الطرفين بثقة كبيرة، و»فهم» عظيم، وما سيدلي به ويقوله كلّ واحد للآخر، طارحاً نفسه علام الغيوب، فإذا به علام العيوب.
كثيراً ما يصطدم المشاهد بمحلل يصنّف نفسه خبيراً استراتيجياً في الشؤون العسكرية، وهو الذي لم يسبق له أن خاض حرباً، أو حتى معركة أو مناوشة عسكرية صغيرة، أو أطلق رصاصة في معركة حربية، حتى إذا ما سمعه او رآه المشاهد، عند سؤال المضيف له، عن توقعاته ورؤيته للتطورات العسكرية الجارية على الساحة الأوكرانية، أو الفلسطينية، أو اللبنانية، أو السورية أو العراقية، يبدأ «الخبير الاستراتيجي» على الفور برسم خارطة شفهية عسكرية، واضعاً نفسه في الميدان، ليبدأ بالتنظير، وتحريك القوات العسكرية للأطراف من هنا، وسحب قوات من هناك، حتى يخال المشاهد او المستمع نفسه، أنه أمام واحد من كبار جنرالات جيش من جيوش الدول العظمى، فهو لا يتردّد في تقمّص ماريشالات الحرب العالمية الثانية، من جوكوف، ورومل، ومونتغومري، ولكلير، ومك آرثر وصولاً الى بطل التحرير الفيتنامي الجنرال فون نجوين جياب.
نقول لهؤلاء «الخبراء» السياسيين، والاقتصاديين، والماليين، و»المحللين» العسكريين، والمنظرين، و»الباحثين» الاستراتيجيين: قبل أن تطلوا على الشاشات وهذا من حقكم، لا تطلقوا على أنفسكم صفة خبراء استراتيجيين، وباحثين، ولا تدعوا محطات التلفزة والإذاعات تطلق عليكم هذه الصفات، قبل أن تبيّنوا لنا الأبحاث والدراسات العلمية التي نشرتموها في المراكز الدوليّة التي تؤكد صفة الباحث على صاحب العلاقة.
في لبنان يوجد القليل من الخبراء والباحثين الفعليين في الشأن السياسي والاقتصادي، والنقدي والمالي، والعلمي، والعسكري، والأمني، والاستراتيجي، وغير ذلك من العلوم، مع كلّ التقدير العالي لهم، لكن احتراماً لهم، واعتباراً لهؤلاء الباحثين والخبراء الفعليين المرموقين، لا يجوز مطلقاً لأشخاص طفيليّين، منتحلي صفة بعيدة عنهم، وما أكثرهم، يثرثرون، ويتشبّهون بهؤلاء، حيث أعداد الخبراء والباحثين منتحلي الصفة يتكاثرون، ويزدادون يوماً بعد يوم كالفطريات، حتى يكاد لبنان يصبح في مقدمة دول العالم الذي يضمّ أكبر عدد من الخبراء، والمحللين
والباحثين، ومراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في المجالات كافة، متجاوزين بذلك الدول الكبرى بعددهم، ونوعيتهم، وخبراتهم، حتى إذا ما سمعهم الخارج، يقول بتهكم، وسخرية، واستغراب شديد: ما الذي يفعله ويقدّمه هؤلاء لبلد ينهار ويتحلل، وفيه هذا الكمّ الكبير من «الباحثين» و»الخبراء»،
و»المفكرين»، و»الاستراتيجيين» وهو ومؤسّساته، وقادته في الدرك الأسفل، لا يحسده على وضعه، حتى أكثر الدول تخلفاً وفساداً في العالم؟!
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق