في الذكرى الثالثة لرحيل المفكر والمجاهد أنيس نقاش
عادل عبد المهدي*
رغم قربنا نحن الاثنين من تشكيلات «فتح» في لبنان في سبعينيّات القرن الماضي، لكنني لم أتعرّف إلى الراحل الكبير آنذاك مباشرة. سأتعرّف على فكره في ثمانينيات القرن الماضي في فرنسا. عندما حُكم عليه بالسجن المؤبد بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال شابور بختيار، آخر رئيس وزراء للنظام الشاهنشاهي. لكن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران عفا عنه عام 1990، بعد أن أضرب أنيس عدة مرات عن الطعام. وفي إحدى المرات استمرّ إضرابه 130 يوماً، مما أثار اهتمام الرأي العام الفرنسي. فأجريت معه عدة لقاءات صحافية، كما نشرت له (انْ لم أكن مخطئاً وقد تخونني الذاكرة) مقالة واحدة على الأقلّ في صحيفة «لوموند» الفرنسية.
كانت رؤاه عميقة، واثقة من نفسها، ومحكمة وعنيدة. لا تكتفي في الدفاع السلبيّ عن الحق، بل تهاجم وتتجاوز كلّ المجاملات والمخاطر من أجله أيضاً. وتعكس فهماً معرفياً واسعاً وملماً بقضايا الفكر والسياسة في المنطقة والعالم. رؤى لا تقف فقط عند الأبعاد التاريخيّة والاستراتيجيّة، بل تقدّم أيضاً تصوّرات عملية وآنية حول السياسات الجارية. خصوصاً في قضايا الأمة وفلسطين والثورة والوحدة ومواجهة الاستعمار والاحتلال. رؤى متقدّمة على أطروحات الساحة يومها، لتبدو لكثيرين أنها مغالية وغير واقعية.
أما التعرّف عليه مباشرة فقد وفرها لي صديقنا المشترك الأخ محمد صادق الحسيني في طهران أثناء الانتفاضة الشعبانية في 1991، إذ التقينا وتحدّثنا طويلاً في الأحداث الجارية يومها. وبعد ذلك جمعتنا لقاءات ومؤتمرات عديدة. فكنت ازداد إعجاباً به وبأفكاره. وكنت أعتبره هو وزميله الأخ الأستاذ ناصر قنديل – حفظه الله – الصوت الجهوريّ والعميق للإخلاص وصوابيّة القضايا. ذلك الصوت الذي يطرق – شاء المرء أم أبى – أبواب الوعي والانتباه، حتى في حالات الاختلاف.
حصل آخر لقاء مع المرحوم أنيس نقاش في «المؤتمر الثاني للحوار العربي الإيراني» الذي انعقد في بيروت في كانون الثاني 2018. كان حريصاً أن يسلّمني كتابه عن «الكونفدرالية المشرقية» وان يسمع رأيي فيه. فقد كان صديقاً أيضاً للمرحوم جلال طالباني الرئيس العراقي الأسبق من خلال اهتمامه بخصوصيّات شعوب المنطقة وقوميّاتها ووحدتها.
لم يتمكّن منه الأعداء لكن تمكّن منه فيروس «كورونا» في 22 شباط 2021، كم كنا نتمنى أن يكون معنا اليوم ليشهد «طوفان الأقصى» وانتصارات المقاومة والمأزق الوجودي الذي يعيشه الكيان الصهيوني ونظام الهيمنة العالمي. وأن يعيش معنا التقدّم العظيم الذي يحققه محور المقاومة، ونهضة الجنوب والشرق، والتطورات الإقليمية والعالمية المناصرة للقضية الفلسطينية. وتحقق الكثير من الأمور التي كان يدعو إليها، والتي كان يتهم بسببها بأنه مجرد ثوري آخر حالم، ينتقل من معركة يخبو وهجها، لأخريات يستعر أوارها.
رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنّا لله وإنا اليه راجعون.
*الرئيس الأسبق للحكومة العراقيّة