إشكاليات استراتيجية انفجرت في الطوفان لا حل لها
ناصر قنديل
– وفقاً لمفهوم قياس القدرة الاستراتيجية للدول والكيانات والقوى بمعيار العلاقة بين فائض القوة والقيمة المضافة، فإن ما جرى في طوفان الأقصى هو أن المقاومة التي تمتلك قيمة مضافة لا جدال في حيويّتها وتفوقها، تمثلها مظلومية الشعب الفلسطيني جمعت ما يكفي من فائض القوة لإسقاط جدار التفوق الإسرائيلي ونثر حجارته في الهواء، بحيث إن كيان الاحتلال الذي كان يستند الى جداره المتين من فائض القوة لصناعة قيمة مضافة اسمها التطبيع مع السعوديّة من بوابة مواجهة «الخطر الإيراني المشترك»، وجد نفسه أسير معادلة فقد خلالها فائض القوة وباتت القيمة المضافة المفترضة التي يمثلها التطبيع مع السعودية رهن حلّ القضية الفلسطينية، بعدما كانت مدخلاً لتجاوزها.
– وفقاً للمفهوم ذاته، فإن كيان الاحتلال عالق بين ركني ثنائية معقدة، فكلما استثمر لكسب المزيد من النقاط في حساب القيمة المضافة، أي السمعة الجيدة والربح السياسي والتقدم في مشاريع التطبيع، وجد أن عليه التنازل عن أمجاد القوة والتخلي عن استخدام فائض القوة، وقبول التراجع في المكان والمكانة، وتقديم تنازلات في الأرض والدور. وكلما استثمر في فائض القوة لكسب المزيد من الجغرافيا وإظهار التفوق الميداني، وجد نفسه محاصراً ببيئة دولية وإقليمية عدائية تصل حد اتهامه علناً بالجرائم، وتهديده بالعزل. وعبثاً يسعى الكيان لإعادة الجمع التي كان قد حققها بين المزيد من فائض القوة والمزيد من القيمة المضافة، بينما على الضفة الفلسطينية يحدث العكس حيث المزيد من النجاح الفلسطيني في ميدان لعبة القوة، يزيد من فرص النجاح الفلسطيني في ميدان التفوق الأخلاقي، وكسب المزيد من التأييد والمساندة المعنوية.
– الإشكالية الثالثة التي فرضها الطوفان وما بعد الطوفان على الصعيد الاستراتيجي، تتمثل في أنه وضع أمام الكيان تحدياً بحجم الحاجة للاختيار بين تحقيق إشباع في فائض القوة لرد الاعتبار لما خسره في يوم الطوفان. وهذا معناه سحق المقاومة والتخلص من وجودها كقوة في غزة. وهذا الربح الكامل في ميدان فائض القوة يستدعي تقبل خسارة كاملة في ميدان القيمة المضافة، أي خسارة الشارع العالمي وقدرة التحرك السياسي في الساحة العربية، التي سوف تكون قد أصيبت شعوبها بالهزيمة مع انكسار المقاومة في غزة، وفقدت معها مشاريع التطبيع نكتها المعنوية كتعبير عن انفكاك إرادي للشعوب عن محورية القضية الفلسطينية بداعي أن الوطنية أعلى مرتبة من القومية، وصار التطبيع صك استسلام يوقعه المهزوم لحساب المنتصر. وبالتوازي فإن الربح الكامل في ميدان القوة لم يعُد ممكناً بسبب ترابط الساحات من دون أن يمثل هزيمة شاملة لكل قوى المقاومة، ما يجبر هذه القوى على الاستعداد للذهاب بعيداً نحو الحرب الشاملة منعاً لهذا الانكسار. وهذا يعني ان على «إسرائيل» وأميركا الذهاب إلى مرتبة أعلى من الحرب واستثمار فائض القوة لا يبدو أنهما جاهزتان لخوض غماره، ولا أنهما تمتلكان مقوماته، ولا يبدو أن حسابات الفوز بهذا الاختبار مضمونة.
– يجري كل ذلك في لحظة دولية غير مناسبة لأميركا والغرب، حيث تمثل الحرب الأوكرانية اختباراً لمزاعم تمتع أميركا بفائض القوة والقيمة المضافة معاً، كما كانت مزاعم «إسرائيل» قبل الطوفان، حيث كانت واشنطن تعتقد أنها تستطيع تخديم جبهة أوكرانيا بوجه روسيا بما يكفي لاستنزاف روسيا، وهي تقول إنها تساند دولة ذات سيادة وشعباً يتعرّض للاحتلال والعدوان بما يلزم ليدافع عن نفسه بوجه قوة طاغية، لتجد أنها بعد الطوفان عن التخديم المزدوج لحاجات «إسرائيل» وأوكرانيا معاً، وأن أولوية «إسرائيل» ستجعل أوكرانيا تخسر، وتكتشف أن شعاراتها في أوكرانيا صارت قيداً عليها في الحالة الإسرائيلية. وأن كل دعم لـ»إسرائيل» يتحول دعماً لخطاب روسيا في الحرب الأوكرانية، وكل دعم للخطاب الأوكراني يصبح تصديقاً على السردية الفلسطينية. فوقعت أميركا بما وقعت فيه «إسرائيل» لجهة الاستحالة بالجمع بين أرباح فائض القوة والقيمة المضافة، من جهة، والعجز عن تخديم جبهتين معاً والربح فيهما معا. في حالة أميركا الجبهتان هما اوكرانيا و»إسرائيل»، وفي حالة «إسرائيل» الجبهتان هما الشمال مع لبنان والجنوب مع غزة.
– موقع أوروبا الجغرافي الأقرب من أميركا الجبهتان هما، أوكرانيا وفلسطين، يلقي الأضواء على المأزق أكثر. وموقع اليمن على الفالق البحري بين جبهتي احتلال غزة والتطبيع مع السعودية، يلقي المزيد من الأضواء على حجم المأزق الأميركي والأوروبي ونوعه، حيث جمع اليمن مثل غزة فائض القوة اللازم لحماية القيمة المضافة التي قرر جعلها عنوان الإمساك بمعادلة البحار، وعنوانها فرض الحصار على «إسرائيل» حتى فك الحصار عن غزة. وهذه كلها علامات إرهاصات تشكل العالم الجديد على إيقاع فلسطين، من البرازيل الى جنوب أفريقيا ومن راشيل كوري الى ارون بوشنل، مسار لا يبدو أن تداعياته قابلة للاحتواء بتسويات صغيرة، حتى لو بدت ممكنة، أو ظهر أنها ضرورية، فلن تكون إلا محطات في سياق سوف يكمل مساره.