فكر سعاده… خلاص الأمة
} طارق سامي خوري*
يقول الزعيم أنطون سعاده عن يوم مولده في الأول من آذار: «يذكر الرفقاء الأُول في الحركة القومية الاجتماعية مثل هذا اليوم من سنة 1935، وأحدهم الأمين عبد الله قبرصي، إذ جاؤوا إليَّ مساءً وأنا في المركز الأول للحركة القومية الاجتماعية في كوخ قائم خلف بناية في رأس بيروت، يحملون باقة زهر لمعايدتي في ذلك المساء، فكان جوابي على معايدتهم قسمي المثبت في الدستور، هذا القسم الذي لم يكن شرطاً في العقد التجاريّ بيني وبين القوميين الاجتماعيين، لأنه لم يكن ولا يوجد بيني وبين القوميين الاجتماعيين عقد تجاري. كان قَسَمي، في صميمه، أني وقفتُ نفسي على هذه الأمة، على أن أسعى لرفعها من حضيض الذلّ والاستعباد، إلى الرقيّ والمجد».
مَن منّا حين يقرأ هذا الكلام للمعلم المؤسّس ولا تستوقفه عبارة «وقفتُ نفسي»، لما فيها من إيثار ونكران للذات وتضحية في سبيل هذه الأمة التي اعتبر سعاده «أنّ الدماء التي في عروقنا هي ملك لها متى طلبتها وجدتها» وقد طلبتها ووجدتها فعلاً في الثامن من تموز. ولطالما رأى سعاده أنّ استشهاده شرط لانتصار القضية، وأنّ انتصارها سيكون انتقاماً لاغتياله بعد حياة قصيرة لكن حافلة بين الدراسات والأبحاث والمؤلفات والنضال في السجن والوطن والمنفى!
لم يكن سعاده حالماً ولا مغامراً أو ثائراً تقليدياً، بل بنى دعوته القومية الاجتماعية على أسُس علمية متماهية تماماً مع البيئة السورية بخصوصياتها ومكوّناتها ومجتمعها وإنسانها وتاريخها وجغرافيتها، ولم تكن تلك الدعوة استنساخاً أو امتداداً لنهجٍ فكري وسياسي مستوحى أو مدعوم من حركة عالمية، وكان كتابه «نشوء الأمم» حول تكوين الأمة وتطوّرها وعلاقاتها بالأمم الأخرى من أهمّ المؤلفات المشرقية في علم الاجتماع منذ أن وضع ابن خلدون مقدّمته عام 1377م.
آمن سعاده بقضيته… قضية الأمة السورية وبشّر بها وبانتصارها كنبيّ ونذر عمره في سبيلها. لم يكن يستعجل النصر كما يرى بعض المحلّلين، لكنّ ذلك كان نابعاً من إيمانه بضرورة انتصار القضية حينذاك، حين كانت كيانات الأمة لا تزال متصلة إلى حدّ ما، أيّ أنّ انفصالها الذاتي لم يكن قد تكرّس بعد، خلافاً لما هي عليه اليوم: ففلسطين احتُلّت والأردن منعزل عن محيطه القومي والعراق عراك وصراعات ولبنان تعصف به رياح الطائفية والمذهبية، وحدَها الشام بدماء جيشها وشهداء «نسور الزوبعة» والمقاومة أعطت بعداً آخر للوجود والصراع بالقتال من أجل حرية الأمة ضمن «الجمهورية السورية». هذا ما قصده المعلم الشهيد حين قال في رسالة إلى إدفيك جريديني (5 شباط 1938): «كلنا يحبّ أن نكون لسورية، لأنه جاء الوقت الذي إذا فات ولم نفعل شيئاً في سبيل حريتنا فإننا ساقطون في عبوديّة شديدة طويلة».
إنّ انفصال الأمة السورية إلى كيانات واغتيال الزعيم أنطون سعاده لم يولّد في يوم من الأيام شعوراً بالإحباط لدى السوريين القوميين الاجتماعيين أو تسليماً بالأمر الواقع، وقد أثبتوا فعلاً ما قاله المؤسِّس «أموت أما حزبي فباقٍ»، مواصلين نضالهم حتى يومنا هذا، كلّ من موقعه مؤيَّدين بصحة عقيدتهم، ولا يزال فكر سعاده هو الحلّ الوحدوي لواقع الأمة المُقسّمة، ولا تزال المبادئ القومية الاجتماعية، لا سيما الإصلاحية، تُرفع شعارات في كلّ تحرُّك مطلبي على امتداد كيانات الأمة بل المنطقة، خاصة فصل الدين عن الدولة، ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء، وإلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القوميّ على أساس الإنتاج، ما يجعل من هذا الفكر فكراً سياسياً واجتماعياً علمانياً عالمياً وحاجة للأمة، بل لكلّ أمة…
*عضو مجلس النواب الأردني السابق