أخيرة

دبوس

فرسان وجرذان

حينما، وفي يوم ذي مسغبة، واللقمة عزيزة نادرة، يقوم المقاتل الفلسطيني في غزة بتقديم الطعام لأسير أو أسيرة “إسرائيلية”، ويبدّيها على نفسه، ويقدّم له أو لها الشراب والماء، وقطرات الماء عسيرة مبتسرة، لا تُنال إلّا بشق الأنفس، ولا يُتَحصّل عليها إلّا بعد عناءٍ وكدح كبيرين…
أيّ إنسان هو هذا الإنسان، الذي ورغم الأسى والتأسّي، ورغم خروج هذا العدو على كلّ المعايير الإنسانية والأخلاقية، ورغم استباحته لكلّ المحرّمات، ودحره لكلّ القوانين التي تنظم بروتوكولات الصراع، أيّ إنسان هو هذا المقاتل النبيل المفعم بالفروسية، والذي يتخطى كلّ الألم وكلّ الرغبة في الانتقام من هذا الوحش المجرّد من أيّ قيمة إنسانية، وأيّ سموّ وترفّع ملائكي يضبطان أفعاله وردود أفعاله، وأي مقدرة أسطورية تمكنه من كظم كلّ هذا الغيط، والتحكم بمشاعره، فلا يفارق منطقة التسامي الإنساني، والترفّع الروحي الذي لا يحظى به سوى الأنبياء والرسل…
وأيّ وحش في المقابل، وأي مسخ بلا أدنى حدّ من الفحوى الإنساني يقابل كلّ هذا الرقي والشموخ، بأن يقوم بقصف النساء والأطفال والرجال الجائعين والعطشى، والذين توجّهوا إلى أماكن توزيع المساعدات، ولم يخطر لهم على بالٍ انّ هذا الوحش سوف يبلغ في سفالته وسقوطه الأخلاقي، وانتفاء أيّ ذرة في داخله قد تحمل جيناً واحداً من جينات الأخلاق، أو صفات التميّز البشري عن الوحوش الداشرة في الغابات الى هذا المنحدر…!
ألف فلسطيني جائع، جلّهم من الضعفاء والمرضى والمتضوّرين من أطفال ونساء وشيوخ سقطوا بين شهيد وجريح، سقطوا مضرجين بدمائهم الزكية، وكلّ ذنبهم أنهم حوصروا فجوّعوا وعطّشوا فذهبوا الى حيث قيل لهم ليسدّوا أود جوعهم، ويسكتوا ذلك الصراخ في أمعائهم الخاوية، طلباً لقليل مما قد يملأ جزئياً تلك المعدات الفارغة، وبدلاً من ان يجدوا لهم ما يشفي جوعهم وعطشهم ويرمّم بقايا أجداثهم، فوجئوا بوابل من القنابل والصواريخ والمتفجرات التي تركتهم، وبالمئات، بين شهيد وبين جريح، ودماؤهم مضرجة بها الشوارع والطرقات والحيطان…!
هذا هو الفرق بين إنساننا وإنسانهم، والطامة الكبرى والرزية التي ما بعدها رزية، انّ هذا الوحش يظنّ نفسه متفوقاً، وانه يتميّز على بني البشر الآخرين، نموذج صارخ لما يمكن ان يصل إليه الإنسان من الضلال وسوء تقييم ذاته وتقييم الآخرين.
سميح التايه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى