ثلاثة وأربعون عاماً والقدس ضيا عينيك… والفتح قريب
} محمد صادق الحسيني
بين النجف وبيروت، وطهران والقدس سرُّك مسكون بآية التمكين يا ابن السجّاد علي بن الحسين عليهما السلام.
اسمح لي يا أخي وشقيقي أبا أحمد أن أبوح ببعض أسرارك قبل أن يخطفني الزمان من بين بقية السيف من أحبابك، أو يحرّف البعض ما تبقى من صورة ناصعة لحركة «أنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدىً».
أعرف أنك الآن أسعد من ذي قبل لكثرة من قدموا إليك على امتداد العقود الأربعة الماضية، من كوادر حركة الشباب المسلم والعقائديين، وتنظيم الدعوة التقاة، والفتحاويين ولجان العمل الإسلامي، والمحرومين، ورجال الله من المقاومة الإسلامية والحرس الثوري كادراً وقيادةً وآخرين كثر منهم من نعرف ومنهم من لم نعرف؛ وأخيراً وليس آخراً أنيسك – أنيس النقاش – الذي لطالما راهنت عليه وعلى جيل الوحدة المتجدّد لإحداث جبهة سرايا، كما راهنت من قبل على العماد رضوان وأبو حسن خضر سلامة على إطلاق مقاومة أممية، وحسنت مراهنتك فها هي جبهتهم.. جبهتنا اليوم ممتدّة من جزائر جبال الأطلس الى باكستان التيبت وسور الصين العظيم، ليكون وطننا الإسلام وتسقط كلّ الحدود جميعاً، إلا حدود الله.
يا حفيد السجاد ومحمد فأنت يوم بدأت نضالك الحركيّ مع الشيخ عز الدين الجزائري حفيد قائد ثورة العشرين، محوِّلاً تنظيمه من حركة إصلاحية الى حركة ثورية عاتبكَ الكثيرون، ولم يكونوا يعلمون انّ الخميني الكبير قادم ليعلنها ثورة عالمية تنفض الغبار عن مدرسة الإسلام وأهل البيت السياسيّة في الحكم، لا من أجل إيران، فحسب بل ومن أجل المستضعفين، كل المستضعفين في العالم…
يا ابن السجاد يوم بدأت العمل الثوري فتىً يافعاً كنت تحلم وتعمل ليل نهار أن توحد حركة الشباب والعقائديين والدعوة الى تيار واحد، والسيد موسى الخوئي ابن المرجعية لا يزال الشاهد الحي، وكذلك بيوتات النجف والفقيد الكبير آية الله الأصفي الذي أسرّ في اذني في طهران يوماً بالقول:
«هل تعرف أنّ اخاك الحسيني كان قد نظّمني في الحركة عنده، ولطالما سعى لتوحيد الجهود ولكن تسارع الأحداث وقمع الطاغية العنيف والتهجير حال دون ذلك!».
أتذكر يا ابن السجاد يوم احتفلت بمولد النبي الأعظم في شارع الرسول جنب مرقد أمير المؤمنين وقد تحدثت بالسياسة والحكم العادل، حينما جاءك البعض مستنكراً فعلتك هذه، متهماً إياك بأنك أخطر من الشيوعيين والكفار على الحركة الإسلامية، لأنك تخلط الدين بالسياسة، وحاول محاصرتك وعزلك.. لولا أن جاء الخميني الكبير وقطع نزاع القوم بدروس الحكومة الإسلامية… ومقولة «إنّ ديننا عين سياستنا وسياستنا عين ديننا»…
هل تذكر يا ابن السجاد يوم انتقلت بدعوتك سريعاً من مناصرة ثورة الجزائر الى ثورة مصر عبد الناصر ومن ثم الى كلّ الوطن العربي والإسلامي الكبير، وصارت فلسطين وفتح التي كانت عين فلسطين يومها، بوصلتك، وكيف جاءك البعض محاولاً خلط الأبحاث بطرح «منع تقديم المفضول على الفاضل»، فلم تأبه بهم ورفضت حرف البوصلة. وظلت منشورات فتح والديمقراطية والشعبية تصلك الى النجف الأشرف لتوزعها على كادر الحركة والأنصار بهدف «كيّ الوعي الرجعي» واستبداله بوعي ثوري متجدّد حتى نصرك الله بالخميني الكبير من جديد يوم أفتى بدعم الفدائيين الفلسطينيين وفتح وياسر عرفات أبو عمار بالاسم…
وصرت تخزّن السلاح بالآبار تمهيداً لأيام الله، وتوزع حراكك نحو الشمال الذي كنت تسمّي بعض خونته بالإصبع الأميركي…
ونحو الجنوب (جنوب العراق) المظلوم والمستضعف الذي كنت تسمّيه بخزان الحركة والثورة، الثورة التي انكسرت مؤقتاً بسبب غلبة عراق بقايا رجعية العثمانيين وخبث البريطانيين، الذين سرعان ما أصدروا حكم الإعدام فيك وحاولوا تنفيذه، لولا أنّ فلسطين انتشلتك من براثنهم، واحتضنتك واستدعتك لإكمال الواجب والتكليف وهي التي أنقذتك من أعواد مشانق الطاغية لتأتي بك الى بيروت عبر عمّان الثورة..
هل تذكر يا ابن السجاد كيف انتقلت عبر عمّان المسبية الى بيروت كليمة البحر والتقيت بإمام المحرومين والفقراء، فكنت خير عون وسند له في السياسة، كما في التثقيف الديني، كما في العلاقات العامة – حيث أصبحت رسمياً مستشاره السياسي والديني في المجلس الأعلى في الحازمية التي يشهد لك على ذلك بمحاضراتك وغير ذلك. وبقيت تتنقل بين المجلس الأعلى في الحازمية وصور المهنية ولم تغب عنك الفتح والبندقية يوم كان الدين الثوريّ مهجوراً …
هل تذكر يا ابن السجاد كيف أصبحت لولب اللقاءات بين أقطاب الأمة ورموزها في بيروت الحوار والتقريب فتحمّست لجمع المفكر الجزائري مالك بن نبي والإمام الصدر، والتلاقي والتعاون بينه وبين علماء اليمن الزيدين إبراهيم الوزير وشقيقه، ومن ثم كيف أصبحت الجسر الجامع والواصل بين الإمام وأبو عمار وكيفية انصهارهما في نشاط بديع ورائع يوم كرّمتم المعارض الإيراني الكبير المفكر الراحل الدكتور علي شريعتي -الذي اغتيل مسموماً في لندن – في إطار مؤتمر موسّع في بيروت.
هل تذكر يا ابن السجاد كيف أصبح موقعك الجديد عوناً وسنداً لكلّ رجال الله من إيران الذين صاروا يأتون اليك زرافات ووحداناً في بيتك في برج البراجنة، من مناضلي الكفاح المسلح والثورة ضدّ الشاه، المكافح الأممي محمد منتظري، والرجل البازار النبيل والشريف الحاج رفيق دوست، وجلال الدين الفارسي، بيتك الذي أصبح خلية نحل للعمل على الإطاحة بنظام الشاه من جهة كما لأجل إنضاج الحراك الإسلامي الجماهيري في لبنان، حتى جاءك رجل التقوى والزهد والعرفان موفداً من رجال المعارضة الإيرانيين المقيمين في الغرب، أعني الدكتور مصطفى چمران الأمل والتحرير الذي سرعان ما نشط تحت عينيك وبمساعدتك في جبل عامل، ومن ثم صار علماً في الدولة الإيرانية المعاصرة – وزيراً للدفاع – ثم ارتقى شهيداً قائداً متميزاً…
هل تذكر يا ابن السجاد كيف كنتَ أول من خاض معارك التوحيد والجمع بين النبعة وتل الزعتر والمخيمات وأبو الوليد نمر حماد وجواد ابو الشعر وصخر الإقليم والمقدم بلال صور، وراجي النجمي وجنوب اللجان – لجان العمل الإسلامي – وبقاع النبي شيت الموسوية وخضت المعارك التوعوية حتى صار البعض يأخذ عليك وعلى رفاقك بأنكم تريدون «إسلام سكر غليظ فيما لبنان إسلامه سكر خفيف»!
الى حين واجهتم الحرب الأهلية الشيطانية المجرمة ما دفعكم لتشكيل سرايا الدفاع عن الشياح والضاحية بوجه الانعزاليين والمرجفين حتى أتتك الرصاصات الرجعية الصهيونية (معارك الشياح عين الرمانة) التي كادت أن تودي بك لولا رحمة ربك وهي التي بقيت في جسدك حتى يوم استشهادك لتشهد على تلك المرحلة الشديدة الحساسية من حياة لبنان.
هل تذكر يا ابن السجاد يوم كنت أول من رفع راية الامام الخميني العظيم في بيروت ووزّعت كتابه «الحكومة الإسلامية»، أنت ومَن معك من النفر المؤمن القليل يوم لم يكن الخميني بعد سوى رمز غريب ومغيّب عن حراك الأمة، ومع ذلك كان إصرارك وثباتك حول ولايته ولأجل نجاح ثورته في إيران هو مفتاح من مفاتيح النجاح، فكنت سفيراً وثائراً كما مسلم بن عقيل حتى تمكنت من جمع أكبر حشد متنوّع الانتماء والرؤى في تاريخ الدعم والإسناد من طلال سلمان والسيد هاني فحص وآل فرحات الكرام والعماد مغنية ورفيقه أبو حسن خضر سلامة وقادة فصائل فلسطين أبو عمار وأبو جهاد وجورج حبش (وعشرات من كوادر الحركة الإسلامية الذين هم اليوم قيادات وأعلام في حزب الله) وجمع غفير من فضلاء أهل السنة ومنهم فقيد الوحدة قاضي صيدا الشيخ أحمد الزين، الى عبد الرحيم مراد أبو حسين، وأيضاً جورج حاوي، ويشهد عليك في ذلك كله ـخوك ورفيق دربك وبقية السيف الشهيد الحي آية الله السيد عيسى الطباطبائي…
هل تذكر يا ابن السجاد يوم صار بيتك في طهران موئلاً وملاذاً لحركات التحرر العربية والعالمية من حركة «الهنود الحمر» الى ثوار الأندلس الى محمد البصري المغرب العربي الى كل أشكال المعارضة العراقية الى معارضة البحرين وأريتريا والفليپين تحرير مورو وكل أحرار العالم الذين صرت تجمعهم بإمامهم الذي كان يستقبلهم بحميمية أخوة الإيمان ويدعو لهم بالتوفيق والنصر…
هل تذكر يا ابن السجاد يوم كنت اول الملبّين لنداء الإمام في نوفل لو شاتو أولاً، ومن ثم في طهران: «اليوم إيران وغداً فلسطين»، فأبيت إلا أن تعود من طهران سريعاً رغم حلاوة النصر، الى حيث أحببت أن تكون بين فقراء جبل عامل وعلى تخوم فلسطين، رغم أنك كنت من المؤسّسين لحرس الثورة الذين كرّموك بتولي مسؤولية علاقاتهم الخارجية وكنت السفير لمجلس قيادة الثورة الفتية الذي أرسلك مع أخيك الثائر المجدد السيد هادي المدرسي، لتجول البلدان شارحاً ومدافعاً عن الثورة والحكم الرشيد الجديد…
هل تذكر يا ابن السجاد يوم كنت أول الملبّين من جديد لنداء إمامك وإمام المسلمين ان: «ألا من ناصر ينصرنا»، يوم أشعل طاغية بغداد، الباغي حربه الملعونة على شعبي إيران والعراق، فصرت طائراً متنقلاً لتحشيد الدعم للحرس الفتي فاشتريت لهم بكفالة وضمانة الراحل أبي عمار رشاشات البريتا ومسدساتها من السوق العالميّة ومن ثم تأمين الكلاشينكوف والـ «آر پي جي» من الراحل الوفي حافظ الأسد مع كمّ كبير من الأسلحة المتوسطة التي نقلت على عجل من الشام لطهران بطائرتي نقل عملاقتين دعماً للحرس الثوري وكرمى عيون الإمام…
هل تذكر يا ابن السجاد كيف أيضا ًكنت الفدائي الذي تحمّل مهمة تأمين ثم نقل صواريخ السكود من طرابلس الغرب الى طهران من فوق سماء موسكو وأنت تعرف أنك مطارد ومراقب ومحسود ومظلوم من قبل المرجفين، وهم هم أنفسهم الذين أخذوا عليك الربط بين الدين والسياسة في حارات وأزقة أمير المؤمنين، ثم عاودوا الظهور بحلة جديدة ليفتروا عليك بلسان ألكن غريب مريب… لا لشيء إلا لعجزهم أمام إصرارك على الثبات والتخندق مع إمامك عاملاً بالتكليف مهما كان الثمن عالياً وصمدت مع جماعة المنتظرين إمامهم القادم القائم بالحق، لتنضمّ الى ثلة الزاهدين بالدنيا ومحاصصاتها ومناصبها وكلّ زخرفها، ولأنك رفضت السفارة والوزارة ونياشين الحكم وكذلك المرافقين والحراس وقلت إنّ حارس العمر الآجل، وقلت يومها كلمتك الشهيرة:
«إنّ من يمتنع من شدّ الرحال الى القدس ليحرّرها تأتيه تل أبيب بجيش احتلال او مرتزقة صهاينة».
حتى عاجلتك مجموعة مجندة من الموساد بلباس يشبه داعش والنصرة اليوم لتغتالك غيلة وغدراً يوم الخامس من مارس/ آذار العام 1981 وأنت خارج من اجتماع تنسيقيّ على طريق فلسطين والقدس في سفارة الجمهورية الإسلامية، فتصبح شهيد القدس وإيران والعراق وسورية ولبنان وتتبناك حركة أمل المجاهدة والثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وكان أن وصفوك يومها بمهندس العلاقات العربية ـ الإيرانية، ونعاك الحرس الثوري رسمياً والقيادة القومية السورية وكلّ المعارضة العراقية الإسلامية وقادة إيران من إمامها الذي توّجك بخط يده شهيداً سعيداً ورئيس جمهوريتها وقائد حرسها ورئيس وزرائها الشهيد رجائي الذين استقبلوك بحرس الشرف رسمياً في مطار مهرباد ثم أبّنوك عشر سنين متتالية…
أنت ارتحلت بدمك يا أبا أحمد، مفتتحاً عصر الاستشهاديين الأممين القادة فكنت لا بدّ أسعدهم ولا تزال…
ولكن لم يمض وقت طويل حتى بدأ المهاجرون والأنصار من مدرسة الإمام، يتقاطرون الى حيث ارتقيت، الواحد بعد الآخر بعد ان أكملوا دربك، مرتحلين في دمهم وهم على طريق القدس من الحرس الثوري أو الحشد الشعبي الى رجال الله في لبنان. وها هم أنصار الله يزينون قوافل الشهداء، والباقي على الطريق فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر…
حان لك الآن أن تنام قرير العين يا محمد صالح الحسيني بعد أن أثمر جهدك وجهادك مضاعفاً فها هي الأمة اليوم كلها تتوحّد على العهد وهي ترسم لوحة بديعة للجهاد من أجل فلسطين تحت عنوان طوفان الأقصى… بعد ان توحد الدم العراقي بالدم الإيراني بالدم السوري بالدم اللبناني بالدم اليمني واكتمل جيش العشرين المليون لتحرير القدس… وصارت فلسطين قاب قوسين أو أدنى من النصر الكبير وما ذلك على الله بعزيز…
أخيراً وليس آخراً يا أبا أحمد، وأنت في عرسك الثالث والأربعين، فقد صار بإمكانك أن تنظّم احتفالاً من نوع متفاوت تماماً، بميلاد الرسول الأعظم الذي لطالما أحببت، وهو بالمناسبة يوم ميلادك أيضاً، وانت بين أغلى الرفاق والاخوة والأحباب، وأنتم متحلقون حول الحوض وبرعاية أمير المؤمنين وأهل الكساء، ولا تنسى أن تدعو لنا بالقدوم إليك فقد طال الفراق…
فلا تُمعن كثيراً في إيلامنا بالانتظار، فأما القدس محررة اولاً، أو حضور احتفالك في الفردوس الأعلى يا ابن السجاد…
بعدنا طيبين قولوا الله… وثورة حتى النصر.