ثقافة وفنون

«محور المقاومة» في معرض تشكيلي للفنانة سهى صباغ… الملصق السياسي في واقعية تعبيرية تصدم المتلقي

‭}‬ نظام مارديني
أخذ محور المقاومة حيزًا واسعًا في المعرض التشكيلي للفنانة سهى صباغ التي تتميّز بخط فني دون أقرانها من الفنانات والفنانين التشكيليين في لبنان، فهي تتخذ من الفن الواقعي التعبيري مدرسة واتجاهًا لأغلب أعمالها التي شكلت أيقونة دلاليّة مليئة بالمعاني، بل ومثلت حقًلا صوريًا من مستويات لونية عدة أعطت لنفسها ذلك التبرير الذي يجعلها تقدّم نسقها الجمالي عبر توظيف الواقع وارتباطه الوثيق مع روحية المنطقة التي تعيش مخاضًا كبيرًا، تلك الروحية التي تؤدي أكثر من وظيفة وغرض فكريّ ليس لأنها تستجيب لأنماط الخبرة الفنيّة في ممارسات كهذه، بل لأنها تهدف إلى تكوين تراكيب تشرع بتأسيس الجمالي من أكثر من جهة.. بل حتى أننا يمكن اعتبار هذا المعرض نصًا شعريًا (الفنانة صباغ شاعرة أيضًا) تحكمه نسقية لغوية ومعبر إبداعي تكوّنه عناصر قابلة للوصف. من هنا يمكن القول إن أي قراءة تحليلية لهذا المعرض تعني محاولة لإقامة علاقة مع العمل الفني نفسه من خلال استخلاص الأنساق التعبيرية التي تنظم هذا المعرض الذي أرى رسومه متشابكة في المضمون في سلسلة مترابطة بالشكل والفكرة والمضمون حتى وكأن المتفرّج يشاهد لوحة واحدة أمامه، ولكن متنوّعة بشخوصها بصريًا.
في هذا المعرض تتابع الفنانة «صباغ» تجربتها التشكيلية وانفعاليتها وتفاعلها مع ما يحصل في المنطقة من عدوان صهيوني/غربي وهو ما يحتاج لقراءة تفكيكية لدلالاته ومنها محاولة رؤية «الأفكار» والبحث عنها ومراجعتها. هي عملية رصد من خلال مخيلة إبداعية والغوص في أعماقها والبوح عن المسكوت عنه من خلال هذه الدلالات الكثيرة والمثيرة في المعرض حيث تحتدم أجواؤها وألوانها وكأنها أمواج متلاطمة في بحر هائج.
فحالما امتلكت «صباغ» ناصية أبجديات اللغة الفنية الحديثة، بادرت الى إغراق نفسها في لجج بحر الألوان الصادمة، وابتكار ألوان جديدة كليًا حتى على استخدامات بعض فناني المدرسة التعبيرية التي يمكن لها أن تحتضن مضامين عديدة.
تجربتها التي تتميز بالأسلوب التعبيري القريب من «الوحشي» لما تحتويه من شخوص بشكل صريح اعتمدت فيه ألواناً طاغية كالأحمر والأزرق والأصفر في مزيج لوني مغاير، خصوصًا أن لكل لون مدلولاته وكأننا أمام حركة تناغم موسيقي، وحيث تتفاعل أجزاء الرسوم مع معانٍ جد عميقة ومباشرة.
وإذا أراد المتلقي أن يفكك البناء الدلالي للنص التشكيلي لاستجلاء المعاني الانفعالية للفنانة الخفيّة فيه فإنه سيواجه إشكالية القراءة المكتملة لهذا المعرض، إذ غالبًا ما تكون القراءة مجتزئة وغير ملمّة إلمامًا كاملًا بمجمل العمل الفنيّ، فهناك مَن يقرأ رسوم المعرض بغية استنباط معنى ما تتضمّنه هذه الشخوص/ الرموز، وآخر يبحث عن التكوينات اللونيّة وتوازناتها. هل تقرأ بعين العقل المتأمل المحلل مفرداتها، أم بعين الحس؟ هل تقرأ الرسوم بوعي انفعالات الفنانة التي أبدعتها أم من منظور لا وعيها؟ ولذا كمتلقٍّ عليه إطلاق العنان لقراءة المعرض انطلاقًا من حس بصري مستند إلى تأمل إدراكي لبنياته التشكيلية بخواصها وإيقاعاتها التكوينية واللونية، القابلة للخضوع لمعايير جمالية.
وهكذا نجد أن الفنانة تمكّنت باحترافية معقولة من التعبير عن اضطراب الواقع اللبناني أيضًا (تفجير المرفأ والحراك الشعبي…)، وبدلالة إيحائيّة يمكن رؤيتها من خلال سعي «صباغ» بجد ودأب كي تضفي شروقًا متميزًا على سطوح رسومها التي تتصارع فيها الكثير من الثيم والإيقاعات اللونية المتناقضة أحيانًا والمتآلفة أحيانًا أخرى، من خلال التعامل العفوي الواقعي. إذ تعتمد التجريب للتكوين اللوني القريب من تشخيص الواقع. وتلك هي مغامرة البحث عن تعبيريّة قيّمة عبر تأثير صدى اللون في عين المتلقي.
فحالما امتلكت «صباغ» ناصية أبجديات اللغة الفنية الحديثة، بادرت إلى إغراق نفسها في لجج بحر الألوان الصادمة، وابتكار ألوان جديدة كلياً.
حاولت الفنانة سهى صباغ أن تبدع قراءة معمقة للوصول إلى إشارات سردية لا متناهية كي نجد تحولًا من طريقة إظهار بريقها اللونيّ، إلى تقنية استخدام الأجواء التي توحي بالعطاء اللوني، واللون هنا ليس مسألة أنثربولوجية، وإنما هو مسألة سيكولوجية وثقافية أيضًا يتحول أحياناً إلى صيغة تشكيلية واقعية تعبيرية غير متطرّفة في عفويتها وحداثتها، لتصبح سطوح الرسوم مجالًا للتشكيل الحر ومتنفساً لروح القصيدة، بحيث تخضع معطيات الأعمال البصرية لحركة الألوان التلقائية بعفوية اللحظة الإبداعية فكل لمسة لونية فيها هي كشف وإيحاء تعكس ما بداخلها من أفكار وأحاسيس ومشاعر تعبر عن حالاتها.
إن المساحات الصغيرة التي تتجسّد في هذه الرسوم التي شكلت «ملصقاً سياسياً» وفي ألوانها تحاول «صباغ» أن تخدعنا لتتيه في جمالياتها وتنسى ما اختبأ وراءَها من معانٍ ورسائل فكرية واقعية وأسى حاضر وترقب وحيرة من غد مقبل. فالفن التشكيلي هو ذلك الفضاء المفتوح على أفق الواقع بكل إشكالاته.
الواضح أيضًا أن «صباغ» تجيد الخروج من أبواب اللون إلى بوابات الضوء ومدارات المساحات وانتصار الذاكرة في تكوين أخيلتها المترابطة التي تتجادل مع الأزمنة في محاولة للملمة اللحظات الهاربة الأكثر إشراقًا بهدف خلق المتعة للمتلقي، حيث تتداخل الذاكرة على شكل استرجاعات حلمية مشحونة بطاقات لونية متفجرة تختصر المسافة بين الحلم والواقع، في عوالم مستعارة تعيد للمشاهد نوعًا من البهجة المدهشة في محاولة لإصلاح روحي تسعى له.. إنها تستفز ذاكرة المتلقي بعفويّتها وتصيبه بالذهول في موضوعاتها الراهنة.
انتهجت الفنانة «صباغ» أسلوبًا فنيًا تعبيريًا خاصًا بها، فهي تعتمد بساطة التعبير والتكوين. فمن خيارات الفنانة الموضوعية أنها تبحث عن واقع قابل لإعادة صياغته وتشكيله من جديد شكليًا ولونيًا لتحقيق قيم جمالية معينة باتساق ينسجم وثيمة أعمالها وبواعثها الفكرية والجمالية.
لا تتوقف الفنانة «صباغ»عن تدفق الرمزيّات المرتبطة بالواقع اللبناني في تفاصيله الإنسانية، إذ تتعايش في لوحات صباغ القدرة على المزج ما بين التشخيص الواقعي والتعبيري، وهي تمتلك سمات القصد منها توفير أكبر مساحة من التأسيس لما هو فكري وجمالي تظهره الرسوم وتعزّزه مظاهر بنية الشكل الفني مندفعة بأقصى حالاتها لتعزيز رؤيتها الجمالية أمام المتلقي.
في كافة أعمالها، تطرح «صباغ» تساؤلاتها واستفهاماتها النابعة من تصوراتها الشفافة للوجود وتنقل بدقة مدى تفاعلها مع واقعها، ولكنها تلجأ إلى خيالها المعرفي وزخم علاماتها لتقدّمها بفكر نقيّ طيّع أمام انحرافات الواقع الإنساني وتناقضاته فهي لا تفرق عن شخوص الواقع التي تُصارع في محيطها، فهي أيضاً تصارع القوالب الخانقة وتنحدر من منعطفاتها الجارفة بعمق أحاسيسها النقية.
هكذا انبثقت لوحاتها من رحم الألم والوجع والثورة والمقاومة، الأمر الذي جعل تجربتها التصويريّة تَتَّسِمُ بالحضور الرمزي للنماذج المرسومة، في أبعادها التعبيرية الإيحائية.. ولكن ما الذي تخفيه وتظهره لوحاتها الفنية في آن؟
هي، بدون شك، ردّ فعل سيكولوجي وترجمة ذاتية مليئة بمجموعة من التفاعلات النفسية. إذ لا يمكن الفصل بين التعبير الداخلي للفنانة والتعبير الخارجي.

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى