سجال التجنيد: طرح الثقة بالجيش والكيان
ناصر قنديل
– لم يكن من المبالغة القول إن كل الدول هي كيانات موجودة قامت بإنشاء جيوش، أما كيان الاحتلال فهو كيان تمّ إنشاؤه حول الجيش. فالجيش هو عصب الكيان وعنصر الوحدة الجامعة بين مكوّناته المبعثرة، وهو سقف البيت المشترك للمستوطنين والمهاجرين الذين جاؤوا تحت إغراء الأمن والتفوّق العسكري، والذين يرتبط ولاؤهم للكيان بقوة الجيش. ودائماً كان للحروب أثر مباشر على تماسك الكيان واستقراره، بصورة ترتبط عضوياً بدرجة النصر المحقق، طالما كان النصر حليف الكيان. وعندما بدأ الفشل يصيب حروب الكيان منذ أول فشل توّج بالانسحاب من جنوب لبنان ولاحقاً من غزة، جاءت حروب رد الاعتبار واستعادة مكانة الردع على لبنان وغزة وانتهت هي الأخرى بالفشل، فبدأ الاهتزاز يصيب استقرار الكيان ووحدته وجاذبيته للمهاجرين وقدرته على إقناع المستوطنين بالبقاء.
– ما رافق طوفان الأقصى من تحدّيات تعاظمت مع الحرب على غزة وجبهة لبنان، وضع تفوّق الجيش على المحك. وطرحت التساؤلات حول قدرته على تحقيق النصر. وبقي الحديث عن أسباب الفشل الكبير في يوم الطوفان علامة حيرة يحيط بها الغموض والتأجيل، تحت شعار أولوية النصر في الحرب على غزة؛ لكن النصر لم يتحقق، والحرب تدخل شهرها السادس. وبدأ الاعتراف السياسي بأن الكيان يخوض حرب وجود، وارتفعت أصوات قادة الكيان تتحدّث بلغة تختصرها معادلة “لا بقاء لنا في هذه المنطقة ما لم ننتصر في هذه الحرب”.
– خلال الطوفان والحرب خسر جيش الاحتلال إضافة لصورة التفوّق، الكثير من مصادر قوته البشرية، وأصيبت ألوية النخبة في صميم تركيبها وبنيتها البشرية، وفقدت نسبة تجاوزت 40% من هيكلها البشري، وما عاد ممكناً إخفاء الحاجة لتعبئة الهياكل الفارغة في بنية الجيش، رغم التستر على حجم الخسائر. فخرجت صحيفة يديعوت أحرونوت في تقرير مخصّص لها عن التجنيد في الجيش تقول نقلاً عن رئاسة هيئة الأركان “إن الجيش بحاجة ماسّة إلى إضافة ما لا يقلّ عن 7000 جندي، نصفهم تقريباً لتنفيذ مهام قتالية. وهذا العدد يضاف إلى المقاتلين المقرّر تجنيدهم بالتناوب، إضافة إلى أن الجيش يطلب تطويع 7500 ضابط وضابط صف آخرين”. ما يعني أن الحاجة لتعويض النقص البشري في هياكل الجيش القتالية تفوق الـ 20 ألفاً إذا أخذ بالاعتبار التطويع الدوري إضافة للطلبات المستجدّة.
– فتح النقاش حول التجنيد والقانون الذي يتمّ بموجبه زيادة مدة البقاء في الخدمة وتأجيل التسريح، إضافة إلى تطويع ضباط وجنود جدد، الباب لإحياء الصراع العميق حول إعفاء الحريديم. وهم طلاب الكليات الدينية المنتمون إلى أحزاب اليهود الشرقيين السفارديم الذين كان يتمّ إعفاؤهم بقانون يتجدّد سنوياً من الكنيست بعد أن رفضت المحكمة العليا مبدأ الإعفاء بداعي تعارضه مع مبدأ المساواة. وجاءت تصريحات أعضاء في مجلس الحرب مثل بيني غانتس ويوآف غالانت وغادي ايزنكوت، إلى التسبّب بالإحراج لبنيامين نتنياهو صاحب هذه التسوية، التي قد تتسبب نفسها بخسارة الأغلبية المؤيدة لحكومته في الكنيست؛ بينما خرج الحاخام الأكبر لليهود السفارديم، يعقوب يوسف يهدّد بالهجرة من الكيان إذا تمّ نسف تسوية الإعفاء للحريديم، وتحوّلت كلماته إلى شرارة سجال طال كل قيادات وتيارات الكيان وتحوّل الى «مدخل لأزمة وطنية»، كما وصفته الصحف الإسرائيلية.
– اهتزاز الجيش كقوة ضاربة يترافق هذه المرّة مع اعتراف بالنقص البشري الكبير، ومع اعتراف بوجود أزمة تضاؤل في الموارد اللازمة للإنفاق على الجيش. ومع انقسام داخلي عميق عمودياً بين العلمانيين والمتدينين، متصاعد منذ التنظيم القضائي الجديد الذي تبنّته حكومة نتنياهو لتحجيم استقلالية وفعالية المحكمة العليا كعلامة حضور لمفهوم الدولة المدنيّة، بحيث يبدو الانقسام حول الجيش رأس جبل الجليد لطرح الثقة بالجيش، بما يعنيه من طرح الثقة بالكيان، وفق معادلة “الهجرة ردّ على التجنيد”.