معيار انتصار المقاومة ومعيار هزيمتها
ناصر قنديل
– منذ طوفان الأقصى ومحاولات إعلامية حثيثة للتلاعب بمعايير النصر والهزيمة تشترك فيها أقلام وشخصيّات إعلامية عربية ولبنانية لصالح تظهير المقاومة كخيار وقوى في موقع الضعف، واستخدام التهويل بالحرب سواء في حلقة جديدة على غزة أو على لبنان لخلق انطباع مخادع بأن المقاومة مهزومة. ما يستدعي صياغة هادئة لمعايير انتصار المقاومة وهزيمتها، بعيداً عن هذا التلاعب والخداع البصري والإيهام الذهني المبني على سلاسل عصبية لفظيّة ومصوّرة لا علاقة لها بحقائق ووقائع تُبنى عليها معادلات النصر والهزيمة.
– في البداية لا بدّ من وضع اليد على حقيقة غير قابلة للجدال والانطلاق منها. والحقيقة هنا هي أن المقاومة في غزة بدأت عملية طوفان الأقصى ولم تكن في وضع دفاعيّ تجاه مبادرة إسرائيلية، ولكونها الطرف المبادر فإن أهداف العملية الميدانية والاستراتيجية، كانت السيطرة على مستوطنات غلاف غزة وتوجيه ضربة قاسية لفرقة غزة في جيش الاحتلال واحتلال مواقعها وقتل وجرح وأسر أكبر عدد من قوامها البشري ضباطاً وجنوداً. أما استراتيجياً، فكان توجيه صفعة قاسية لصورة الردع التي رسمها جيش الاحتلال حول قوته التي لا تُقهر وإذلاله بصورة الهزيمة وكسر مهابته والأوهام التي نسجها حول قدراته، وزرع الشكوك حول قدرة هذا الجيش على ضمان استمرار الكيان في البقاء، وزعزعة نظريات رسم خرائط المنطقة بتجاهل القضية الفلسطينية. وتالياً إعادة القضية الفلسطينية الى الواجهة كمدخل إلزاميّ لأي ترتيبات استراتيجية في المنطقة، وفي الحصيلة باعتراف الإسرائيلي والأميركي بالوقائع، فإن كل هذه الأهداف تحققت.
– قاد الأميركي والإسرائيلي ومعهما كل دول الغرب، رداً على الطوفان، حرباً عنوانها استئصال المقاومة في غزة واستعادة الأسرى من بين أيديها بالقوة. وحتى الآن أصيبت هذه الحرب بالفشل. فلم تنجح بتحقيق هذه الأهداف ولو جزئياً. فالمقاومة لا تزال قادرة على استهداف جيش الاحتلال بكتائب نخبته وألويته المقاتلة وآلياته ومعدّاته وتجهيزاته التقنية، على كل مساحة قطاع غزة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ولا زال الطريق الذي يعترف الإسرائيلي والأميركي أنه طريق استعادة الأسرى هو التفاوض لإنجاز تبادل للأسرى. ما يعني أن المقاومة تسبّبت مرة أخرى بعد نصرها في الطوفان بإلحاق الهزيمة بالحرب الأميركية الإسرائيليّة التي شُنّت عليها.
– الى جانب هذا الانتصار حققت المقاومة نصراً رديفاً تاريخياً تمثّل في ربح حرب الرواية على الحلف الأميركي الإسرائيلي الغربي الذي جند كل أدواته الاعلامية العملاقة من صحافة وقنوات تلفزيونية وشخصيّات مؤثرة، لتظهير المقاومة بصورة نظير لتنظيم داعش، ولصق صورة الإرهاب بها، وحشد الرأي العام الغربي لمناصرة الحرب عليها. وكانت النتيجة سقوط هذه الحملة وفشلها فشلاً مدوياً، وتسبب ما يمكن وصفه بـ الإنجاز الوحيد الذي حققه حلف الحرب الأميركية الاسرائيلية عبر الدمار الرهيب والقتل المريع اللذين أصابا غزة وسكانها، بإطلاق حملة عالمية تدين الحرب ومَن يقف وراءها بجرائم بحق الإنسانية وجرائم الإبادة. فامتلأت شوارع العالم بملايين المتظاهرين تنديداً بالحرب ومطالبة بوقفها، وحازت جنوب أفريقيا مكانة واحتراماً لتبنيها إقامة دعوى إبادة جماعية بحق كيان الاحتلال بسبب جرائم حربه على غزة.
– أخذ الأميركي على عاتقه مسؤولية منع جبهات المقاومة في المنطقة من التحرّك لإسناد غزة، خصوصاً لبنان واليمن والعراق، وحشد مدمراته وحاملات طائراته وأرسل التهديدات لتحقيق هذا الهدف، بنصف حرب. وكانت النتيجة أن المقاومة فتحت نيرانها مساندة لغزة، متحدّية التهديدات الأميركية، ووصلت الأمور إلى أن جبهة اليمن فرضت إرادتها على الملاحة في البحر الأحمر. والمقاومة اللبنانية فرضت معادلة تهجير مستوطني شمال فلسطين المحتلة. والمقاومة العراقية فرضت مفاوضات أميركية عراقية تحت عنوان سحب القوات الأميركية من العراق دون أن تتوقف هذه المقاومة عن أداء مساهمتها في استهداف عمق كيان الاحتلال. وخلال شهور يعجز الأميركي عن فرض تجميد جبهات الإسناد، ونجحت قوى المقاومة بفرض معادلة تقف الجبهات كلها عندما تقف الحرب على غزة.
– مهما كثر الكلام واشتعلت النيران، تبقى المقاومة في غزة منتصرة، ونصرها تحقق في الطوفان، ما دام الأميركي والإسرائيلي عاجزين عن استرداد الأسرى من المقاومة بالقوة، وما دامت المقاومة مستمرة بإطلاق النار على جيش الاحتلال وإلحاق الأذى بجنوده وضباطه ومعداته. والمقاومة في لبنان تبقى منتصرة ما دامت تستهدف جيش الاحتلال وتجهيزاته وتهجّر مستوطنيه وهو يفشل في وقفها ويفشل في إقناع مستوطنيه بالعودة. والمقاومة في اليمن تبقى منتصرة طالما بقيت قادرة على السماح ومنع العبور في البحر الأحمر، والأميركي عاجز عن إعلان البحر الأحمر ممراً آمناً أمام السفن الإسرائيلية.
– التهويل بالحروب المقبلة لخلق مناخ يتيح الحديث عن جبروت أميركيّ إسرائيليّ لن يغيّر شيئاً من حقيقة أن الهزيمة لا تزال حليفة الأميركي والإسرائيلي وأن النصر لا يزال في ضفة قوى المقاومة. وإن استمرت الحرب شهوراً على هذا المنوال، فإن هذه الحصيلة سوف تعزز أكثر. ومن يستطيع كسر هذه الحصيلة فعليه كسرها في الميدان وليس على شاشات التلفزة المموّلة التي توزع ألقاب الخبراء والمحللين على من لا شغل لهم الا التحدّث غب الطلب.