ملهاة التاريخ وغطرسة القوة…
زياد زكريا
«التاريخ يعيد نفسه مرتين مرة بشكل مأساة ومرة بشكل ملهاة»، عبارة ينسبها الكثيرون إلى كارل ماركس ولكنها تواترت عن الكثير من الفلاسفة عبر التاريخ منذ العصر اليوناني، وأرى أنّ المقصود بهذ المقولة أنّ أيّ حدث تاريخي هو نتاج أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية معينة، فإذا تكرّرت نفس الأوضاع في زمان آخر وفي مكان آخر فمن المنطقي أن تؤدي إلى نفس النتائج، وفي المرة الثانية تكون مهزلة لأنّ أحداث المسرحية تكون أوضح، لا سيما إذا كان المعاصرون لم يستفيدوا أو لم يقرأوا أو لم يتعلّموا من الدروس والعِبر التي يفرضها سياق التاريخ، وكذلك إذا لم يستوعبوا أنّ صناعة التاريخ تتمّ نتيجة صراعات بين طرفين، أو أكثر، ولا يلقون بالاً لحركة الطرف الثاني نتيجة للاستكبار والاستخفاف بقدرته على القيام بفعل مقاوم يجهض رغبة الطرف الأول في الهيمنة.
تحضرني هذه المقدمة لدى النظر إلى تصرفات الإدارة الأميركية وتحديداً قرار بناء الميناء العائم على شواطئ غزة استمراراً للغطرسة التي تمارسها على الشعوب وغرورها الذي يهيأ لها القدرة على إخضاع الشعوب استمراراً لثقافة الاستعمار التي ورثتها عن الدول الاستعمارية الأخرى في أوروبا والقائلة إنّ شعوب دول الجنوب عبارة عن مواد مستهلكة ليس لهم قيمة إنسانية وفي أحسن الأحوال هم مستهلكون وليسوا منتجين.
يظهر لنا عبر التاريخ الحديث أنّ إدارة النزاعات من قبل الولايات المتحدة الأميركية تشير إلى وجود نمط لتصرفات أميركا في محاولاتها قهر واستضعاف الآخرين بدأ في منطقتنا في القرن العشرين ولا يزال مستمراً في القرن الواحد والعشرين بمعنى أنه ليس نمطاً ونهجاً حديثاً، ويتمثل هذا النمط في تحديد هدف ما ورسم خطة عمل يتمّ تعديلها وفقاً للظروف والمتغيّرات التي تطرأ على عملية القهر، حيث تبدأ خطة العمل بتعيين وكيل لتنفيذ الأعمال القذرة لقهر الشعوب وفي حالة فشل الوكيل تنبري قوة الاستكبار بمقدراتها وجنودها لتنفيذ العمل والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، منها…
*الهجوم على كوريا بعد فشل الحكومة المحلية في السيطرة على البلاد وهزيمة الثوار حينها،
*الهجوم على فيتنام بعد فشل الحكومة الدمية في السيطرة على البلاد وهزيمة الفيتكونغ،
*الهجوم على لبنان بعد فشل القوى الإنعزالية في السيطرة على البلد وهزيمة المقاومة الوطنية،
*الهجوم على أفغانستان بعد أن انقلب السحر على الساحر وتبنّى الوكيل اتجاهاً مختلفاً عما أراده الأصيل بعد انتهاء المرحلة الأولى وخروج الاتحاد السوفياتي من أفغانستان.
*الهجوم على ليبيا بعد أن أيقنت أنّ العملاء والمضللين لن يستطيعوا إسقاط الدولة،
*الهجوم على العراق بعد فشل الحصار والتجويع والإرهاب في إسقاط الدولة،
*الهجوم على سورية وتثبيت قواعد عسكرية في البلاد بعد فشل الإرهاب والعملاء والفتن المذهبية والإثنية وفشل الايدولوجيات المعلّبة في إسقاط الدولة،
وفي حالتنا هذه فقد فشل الوكيل الصهيوني في إخضاع غزة، ثم فشلت الخطط البديلة من إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة، أو تسليم غزة للأردن ودول عربية أخرى، لتدجينها، أو تسليم إدارة غزة للعشائر ووجهاء المنطقة في تقليد أعمى للصحوة في العراق، فاستنفذت أميركا الوسائل وكشرت عن نواجذها وكان لا بدّ من نزول الأصيل إلى الحلبة وزرع قاعدة عسكرية للسيطرة على الجغرافيا والموارد الاقتصادية المعروفة رابطاً مصيره بمصير الكيان الغاصب ومؤكداً القاعدة الأساسية وهي أنّ هزيمة «إسرائيل» هي هزيمة للامبريالية وقوى الاستغلال وبداية النهاية لهذا المشروع المقيت، ويثبت لنا التاريخ الحديث أنّ أميركا لا تتراجع إلا إذا تمّت هزيمتها وتمريغ أنفها في الوحول والشواهد كثيرة من نفس الأمثلة المذكورة وخاصة في لبنان عندما خرجت تجرّ أذيال الخيبة والفشل بضربة واحدة لمقرّ المارينز وهو ما نتوقع رؤيته في غزة عندما تدمّر المقاومة هذا الرصيف العائم ومن عليه.
فإلى كلّ من يرفض الهيمنة والاستغلال أن يضع نصب عينيه أنّ هزيمة المستكبر قد أصبحت وشيكة، ولكم في اليمن المحاصر المقاوم الفقير مثال واضح يثبت أنّ كميات الحديد وأوزانها لا يمكن أن تهزم إرادة القتال لدى شعب عاهد الله على الفوز بإحدى الحسنيين ويفوز بكليهما، وليس عندي شك بأنّ المقاومة واعية لهذا الأمر وقد جاءها العدو إلى حيث يمكن مقارعته وهزيمته بدلاً من الاختباء خلف البحار والمحيطات.