جبهة شمال فلسطين المحتلة: العدو يعالج إرباكه بالحرب النفسية
} العميد د. أمين محمد حطيط*
عندما فتحت المقاومة الإسلامية في لبنان جبهة الجنوب مع فلسطين المحتلة بتاريخ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حدّدت لها سقفاً وضوابط وأهدافاً ربطاً بالجبهة الرئيسية في غزة، تلك الجبهة التي تشكلت إثر العدوان الإسرائيلي الذي شنته “إسرائيل” ضدّ القطاع بعد أن أذلّتها المقاومة الفلسطينية في صبيحة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 وكشفت وهن بنيتها الدفاعيّة وفضحت عقم خططها الاستراتيجية للدفاع عن غلاف غزة.
أطلقت “إسرائيل” عدوانها وحدّدت له أهدافاً عالية السقوف يمكن أن يستنتج منها أنّ “إسرائيل” بصدد حرب مفتوحة ضد القطاع لن تتوقف إلا بعد أن تُهجّر ناسه وتُدمّر بنيانه وتُحيله الى أرض غير قابلة للعيش بعد أن تفسد كلّ شيء فيه يخدم الحياة على أرضه. وكان جلياً أنّ رفع سقف الأهداف واعتبار عدم تحقيقها هزيمة استراتيجية لـ “إسرائيل” كان من أجل هذ الهدف المركزي الذي يحكم السلوك الإسرائيلي وهو إلقاء القطاع في دائرة العدم واستحالة العيش فيه لانّ “إسرائيل” لا تجد طريقاً لضمان الأمن لسكان غلاف غزة إلا بتفريغ القطاع من أهله.
هذا التفريغ الذي يخدم هدفاً استراتيجياً إسرائيلياً أهم، هو “إقامة الدولة اليهودية” على كامل فلسطين التاريخية من البحر الى النهر، وهو هدف رأت “إسرائيل” أنّ أوانه قد حضر مع تظاهرة الدعم الغربي والدولي لها إثر عملية “طوفان الأقصى” التي خسرت “إسرائيل” فيها المئات من الجنود والمستوطنين، تظاهرة هبّت لنجدة “إسرائيل” وعلى رأسها زعماء الغرب يتقدّمهم رئيس أميركا بايدن الذي تعهّد لـ “إسرائيل” بأن يمدّها بكلّ ما تحتاج وأن يكفيها عبء القتال مع الجميع ويترك لها أن تهتمّ هي بحماس والمقاومة الفلسطينية في غزة.
أمام هذا المشهد الدولي والإقليمي الحاضن لـ “إسرائيل” والداعم لعدوانها على قطاع غزة والفلسطينيين وفلسطين، كان لا بدّ من موقف ميداني يتخذه محور المقاومة بمكوناته القادرة على التحرك، موقف يتعدّى الدعم والتأييد السياسي والكلامي على أهميته ويرقى الى مستوى العمل الميداني الذي يضغط على العدو ويهدّد بالملموس الجدي مصلحة او أكثر من مصالحه لحمله على التخفيف من عدوانه أو خفض سقف أهدافه على الأقلّ، موقف يبعد الشعور الفلسطيني بانّ المقاومة الفلسطينية تُركت وحيدة ليستفرد بها الوحش الصهيوني.
لأجل ما تقدّم فتحت المقاومة الإسلامية من لبنان جبهة الجنوب اللبناني مع فلسطين والأراضي السورية واللبنانية المحتلة في مزارع شبعا والجولان، جبهة بطول 103 كلم من الناقورة الي جبل الشيخ – حرمون يشغلها دفاعيّاً بشكل روتيني قوى “إسرائيلية” بحجم 3 فرق ويخصص لها عند الخطر والتهديد قوى إضافية مع قبة حديدية يصل حجمها في مجموعه الى ما يعادل ثلث القوة العملانية القتالية للجيش “الإسرائيلي”، ولأنها اعتمدت استراتيجية الضغط فحسب، فقد وضعت المقاومة الإسلامية لهذه الجبهة ضوابط في المكان ونوع الهدف وطبيعة الأسلحة المستخدمة وطبيعة المناورة المعتمدة، حيث اختارت هذه الضوابط لتبقي تدخلها يتحرّك وفقاً لخطين خط الإشغال والإرباك المستمر فتلتزم به وخط التفجير الشامل والحرب المفتوحة فلا تصل إليه او تلامسه مع البقاء على أهبة الاستعداد إذا أُجبرت عليه.
نجحت المقاومة الإسلامية من لبنان في تحقيق أغراض مساهمتها الميدانية في الصراع مع العدو وأعطت الدعم المعنوي للمقاومة الفلسطينية التي شعرت بأنها ليست وحيدة في الميدان وشجعت مكونات أخرى من محور المقاومة في اليمن والعراق على التدخل ما رسم مسرح عمليات مقاومة متعدد الجبهات فاجأ الغرب، وخاصة “إسرائيل” وأميركا اللتين عملتا على تفكيكه بشتى الوسائل والطرق، ولكن فشلتا.
أما ميدانياً، فقد نجحت جبهة المقاومة من لبنان في تدمير او تعطيل او خفض كفاءة الجدار الالكتروني التجسسي المنشأ على الحدود للمراقبة والتجسّس على لبنان بعمق يتراوح بين 5 الى 50 كلم، كما نجحت في فضح وانهيار البنية الدفاعية الثابتة وكشفت وهن القبة الفولاذية في مواجهة بعض ما استعمل من صواريخ المقاومة دون أن يكون هو الأهمّ منها، وتسبّبت في انهيار الحزام الأمني الحدودي للعدو ما تسبّب بإخلاء 42 مستوطنة كلياً او جزئياً من سكانها وتسبّب بحالة نزوح واسعة طالت بين 180 و 230 ألف مستوطن ألقوا بثقلهم على الوضع في “إسرائيل”، هذا فضلاً عن تعطيل كلي أو جزئي لمرافق اقتصادية واسعة في قطاعات الزراعة والسياحة والصناعة وتحويل المواد.
وعليه نرى أنّ “إسرائيل” لم تكن تتوقع أن تحرّك جبهة الشمال بهذا النمط والتأثير، ولذلك أربكت في التعامل معها ولا تزال في حالة إرباك متصاعد، إرباك ناتج عن أمرين:
ـ الأول عدم قدرتها على تحمّل مفاعيل هذه الجبهة بالوضع الذي وصلت إليه خاصة بعد أن تكثفت الضربات لمراكز القيادة في الشمال والجولان وإضافة للمراكز العسكرية الثابتة والبديلة واشتدّ تأثير استهداف بعض المرافق الاقتصادية والمدنية داخل بقعة عمليات المقاومة.
ـ والثاني عدم جهوزيتها لتفجير الوضع بشكل شامل والذهاب الى حرب مفتوحة، لأنّ جيشها وبعد نيّف وخمسة أشهر من العمل الإجرامي والمواجهات التي خاضها وأثخنت فيه الجراح، هذا الجيش غير جاهز للحرب قبل أن يلتقط أنفاسه ويخضع لإعادة تنظيم وتأهيل وسدّ النقص في العديد والعتاد ورفع المستوى المعنوي له، وأنّ دخوله في حرب الآن وهو على هذا الوضع يكون بمثابة استدعاء لهزيمة لا يعرف حدودها النهائيّة أحد، ولذلك تتعالى أصوات جنرالات الجيش القدامى تحذيراً من هذا الخطأ.
وبالمناسبة لا بدّ من أن نشير ولو بعجالة سريعة الى ما حصلته المقاومة من خبرات في أشهر الحرب الخمسة، خبرات قد تلزمها او تستعملها في مواجهات مقبلة مع العدو الإسرائيلي وهي خبرات يعرف العدو انها ثمينة ما يفرض عليه ان يتعاطى معها بجدية على أكثر من صعيد، سواء في التخطيط والتنظيم الدفاعي او الهجومي او الممارسة العملانية الميدانية؛ وهذا ما يربكه أيضاً.
ولأنّ واقع “إسرائيل” وجيشها في الشمال الفلسطيني المحتلّ هو على هذه الصورة، فإننا نرى انّ كلّ تهويل او تهديد إسرائيلي بالذهاب الى الحرب المفتوحة مع لبنان يندرج في إطار الحرب النفسية التي تبتغي منها “إسرائيل” رفع معنويات جندها المنهارة وتشعرهم بأنها تثق بقدراتهم على المواجهة، كما واحتواء تحرك المستوطنين الذين يضغطون من أجل اندلاع تلك الحرب لتعيدهم إلى بيوتهم وقد تناسوا انّ حرباً تندلع الآن ستهجّر مليونين منهم إضافة، ولن تعيد الـ 200 ألف منهم كما توعّدهم سيد المقاومة الذي كشف مناورتهم وردّ التهديد بالتهديد.
نعم أننا نرى انّ الحرب التي تهدّد بها “إسرائيل” مستبعدة حتى الآن ولا يمكن ان تنطلق شرارتها بيد إسرائيلية إلا بقرار انتحاري يتخذه نتنياهو ليورّط أميركا بها ويقطع الطريق على الصفقة التي يعمل عليها لهدنة وتبادل أسرى في قطر، كما تضغط أميركا. ضغط نرجح أن يستجيب نتنياهو اليه بعد مماطلة وتسويف لعدة أسابيع حيث يرجح الوصول الى صفقة تفتح الباب أمام وقف نار متدرّج وعلى مراحل قد يسبقه نتنياهو بقرار استعراضي لفتح محدود لجبهة رفح. هذه الجبهة التي يعتبر النصر في الحرب كلها متوقفاً على الربح فيها، اما جبهة شمال فلسطين المحتلة فستبقى جبهة إسناد تتحرك او تتوقف على إيقاع ما يجري في قطاع غزة ويستمرّ التهديد “الإسرائيلي” بحرب ليست “إسرائيل” جاهزة لها.
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي