هكذا نفهم الحياد…
} د. عدنان نجيب الدين
الحياد كما ورد في بعض المراجع اللغوية، هو “عدم التحيَز. وفي السياسة، هو تبنّي الدولة موقفاً يبعدها عن التكتلات، ايّ الرغبة في النأي عن النزاعات”.
إذن، في حال كانت هناك خصومة بين دولتين حول أحقية هذه الدولة او تلك في أمر متنازع عليه، لا نتخذ موقفاً منحازاً إلى إحداهما، ونترك للقانون الدولي حسم الأمر.
وعلى سبيل المثال، الخصومة بين أميركا والصين حول من يقود العالم، نحن نقف على الحياد.
وفي حال كان هناك خصومة بين أميركا وإيران، علينا ان لا ننحاز لا لأميركا ضدّ إيران ولا لإيران ضدّ أميركا، ونتبنّى فقط ما نص عليه القانون الدولي، ولا نتبنّى العقوبات الأميركية والغربية عليها لأنها مخالفة لما صدر عن مجلس الأمن من قرار برفع العقوبات عن الجمهورية الإسلامية في إيران بعد توقيع الاتفاق النووي بينها وبين الدول الخمسة زائد واحد، والتي نقضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مخالفاً بذلك قرار مجلس الأمن بهذا الخصوص.
واذا كان هناك خلاف بين سورية وأميركا ناتج عن إرادة هذه الأخيرة بالهيمنة عليها وسرقة نفطها وتغيير نظامها بالقوة ومحاولة إسقاط نظامها من خلال اختراع “ثورة” ليست في الحقيقة إلا اثارة للفتن والهجوم على الدولة السورية من خلال دعم جماعات إرهابية تكفيرية متعددة الجنسيات، فالوقوف على الحياد يعني أن نلتزم فقط بما نصت عليه شرعة حقوق الدول بعدم جواز التدخل في شؤون الدول الأخرى وعدم انتهاك سيادتها واحتلال أراضيها أو سرقة مواردها أو الإخلال بأمنها. فلا نتبنّى تطبيق القوانين الأميركية أو مواقفها العدوانية بحصار سورية واحتلال قسم من أراضيها وسرقة مواردها النفطية. أما أن نقف مع الولايات المتحدة ضدّ سورية الداعمة لحركة المقاومة في وجه الاحتلال الصهيوني، فيعني ابتعاداً عن مبدأ الحياد، ومشاركة في انتهاك قرارات الأمم المتحدة وميثاقها، بما يُعتبر دعماً لمبدأ التدخل في شؤون الدول.
كذلك إذا كنا نتاجر مع الغرب، ونسمح لشركاته بالاستثمار في بلادنا، فالحياد وعدم الانحياز يقتضيان ان نسمح أيضاً للشركات الصينية والروسية والإيرانية وغيرها بالاستثمار في لبنان. فلا يكون حق التعاقد لاستثمار الغاز والنفط والتزام المشاريع الاقتصادية مثلا حكراً على الغرب فقط.
وإذا كنا نستورد النفط من دول الخليج العربي، فالحياد يقتضي منا أن نسمح باستيراد النفط من إيران أو روسيا أيضاً، وإلا نصبح منحازين لطرف دون آخر، ونحن غير ملزمين بالانصياع لإرادة اميركا على حساب مصالحنا الوطنية، حيث انّ الولايات المتحدة الأميركية، والغرب ايضاً، يفرضان علينا توجهاتنا الاقتصادية ويتدخلان في حركة نظامنا السياسي من خلال تعليمات تعطى للعديد من القوى السياسية، بحيث أننا نضطر للتسليم لهم بما يملونه علينا من رفض او قبول انتخاب هذا او ذاك لرئاسة الجمهورية أو لحاكمية البنك المركزي على سبيل المثال.
وإذا كانت أميركا والغرب يحتكران تسليح الجيش اللبناني بالأسلحة التقليدية الخفيفة التي لا تسمح له بمواجهة الاعتداءات الصهيونية ولا تردع العدو عن تهديد شعبنا أو تضع حداً لأطماعه في ثرواتنا الوطنية، فعن أيّ حياد نتحدث إذا كنا نقبل بهذه الإملاءات؟
الحياد يقضي بأن يكون لنا قرارنا الحرّ وأن نأتي لجيشنا بالسلاح الرادع كأجهزة الدفاع الجوي والأرضي والبحري من طائرات حربية وصواريخ وأنظمة دفاعية متطوّرة من أيّ مصدر آخر كروسيا والصين وإيران مثلاً…
ونظراً لأننا بحاجة إلى استثمار ثرواتنا النفطية والغازية والى إنشاء معامل للكهرباء وإعادة إعمار المرفأ وإصلاح البنية التحتية للبنان إلخ… فالحياد يقتضي استدراج العروض من الشرق والغرب ومنح حق الاستثمار للشركات التي تكون أقلّ كلفة على اللبنانيين والأكثر فائدة لهم…
إذن، الحياد هو في قياس مصلحة الدولة اللبنانية والمجتمع اللبناني لا في قياس مصالح الدول الأخرى على أراضي الدولة المحايدة.
واليوم، وفي الحرب التي تشنّها قوات الاحتلال الصهيوني على غزة وارتكاب الإبادة بحق شعبها، فالحياد لا يعني أن نقف متفرّجين على المذابح التي يرتكبها العدو بحق الإنسانية ونكتفي بإلاعراب عن مشاعر التضامن الشفهي، ولا نقوم بأيّ عمل يساند اخواننا المستضعفين في فلسطين وإشعار العدو ببعض الألم اذا كنا ننتمي إلى فصيلة البشر الآدميين العقلاء.
تعالوا نقيس الأمر على أنفسنا، لو تعرّضنا لحرب إبادة كالتي يتعرّض لها أطفال ونساء وكلّ شعب غزة، هل نقبل فقط بأن يتفرّج الآخرون على قصفنا وذبحنا كما يفعل الصهاينة وجيشهم المجرم بهذا الشعب الشقيق؟ أم نطلب المساعدة العملية والميدانية من كلّ من يستطيع مد يد العون إلينا؟ هذا هو معنى وحدة الساحات في مجابهة الإجرام والعدوانية الصهيونية. انها وحدة الإنسانية تعبّر عن نفسها في هذا الدعم، وليس انحيازاً إلى محور، بل انحياز إلى قضايا الحق والحرية والقيم الأخلاقية السامية.. أما القول “ما خصنا في ما يحصل في غزة” فهو تعبير عن تخلف ثقافي وانحطاط أخلاقي، إزاء هذا العدوان الوحشي، فإنْ لم تتحرك فينا الروح الإنسانية لعمل ايّ شيء لوقف هذه المجازر بحق الأطفال والرضع الذين يتعرّضون للقصف الصهيوني فعلى الإنسانية السلام ويجب أن ترمى كلّ قرارات وشرائع حقوق الطفل وحقوق الإنسان في وجه من نصّبوا أنفسهم أوصياء على تنفيذ مضمون نصوصها لنقول لهم بأنكم منافقون وشركاء في هذه الجريمة الكبرى.
إذن، الحياد إنسانياً وأخلاقياً لا يعني عدم اتخاذ موقف بين الحق والباطل أو بين المعتدي والضحية، أو بين الظالم والمظلوم، أيّ بين حق الفلسطينيين في أرضهم ومحاولة انتزاعها من الصهاينة المحتلين، والحياد لا يعني أن ننتظر العدو الصهيوني المتعطش للدماء حتى يأتي بجيشه ويذبح شعبنا ويصادر منا أرضنا وممتلكاتنا وحقنا في السيطرة الكاملة على ثرواتنا الطبيعية…
فالحياد بهذا المعنى هو استسلام وتسليم للقوة العدوانية الغاشمة بشرعية مهاجمة بلدنا وشعبنا، بل أيّ بلد وأيّ شعب واحتلال أرضه وطرده منها بالقوة.
لا حياد بين الحق والباطل لأنّ ذلك يعني نصرة المظلوم على الظالم. الحياد يعني التضامن الإنساني واستعادة الحق لأصحابه، وإلا يصبح الحياد تجاه الجريمة جريمة لا تغتفر.
بناء على ما تقدّم، فإنّ ما تقوم به المقاومة اليوم في جنوب لبنان هو:
أولاً، دعم ومساندة شعب غزة البطل المقاوم من منطلق الشعور القومي والإنساني والأخلاقي.
ثانياً، محاولة إضعاف قدرات العدو البشرية والعسكرية، بالقضاء على أجهزته التجسّسية ومراكز قيادته العسكرية في الشمال الفلسطيني المحتلّ. وهو دفاع استباقي من خلال ضربها تجمعات جنود العدو بقتل وجرح المئات وربما الآلاف من جنوده وضباطه – بالرغم من إخفائه اعدادهم حفاظاً على معنويات جيشه ومستوطنيه – فجعلت تنفيذه لتهديداته بالاعتداء على لبنان وإعادة احتلال أرضه أمراً بغاية الصعوبة وليس سهل المنال، لأنّ ما ينتظره من ضربات قوية على أيدي المقاومين الأبطال الشرفاء قد يضع وجوده الاحتلالي لفلسطين على المحك.
ثالثاً، إفهام المستوطنين الصهاينة الدخلاء بأنّ بقاءهم في الأراضي المحتلة بشكل غير شرعي قد حانت نهايته، وانّ دولتهم الغاصبة آيلة إلى زوال عما قريب، وما تكبّدوه حتى الآن من خسائر بشرية واقتصادية وأمنية ونفسية ليس إلا البداية، وما ينتظرهم أعظم بكثير، وما عليهم سوى الاستعداد للرحيل – كما فعل مئات الآلاف منهم حتى الآن – عن هذه الأرض المقدسة لتعود إلى أصحابها الشرعيين، وهكذا ترتاح المنطقة ويرتاح لبنان من الاحتلال الصهيوني ومن جرائمه التي امتدت خمسة وسبعين سنة.
وأخيراً نقول: لا بدّ لأميركا والغرب أن يدركا بأنّ مصالحهما في المنطقة لا يجب ان تقوم على قهر الشعوب بل على احترام سيادتها وحقوقها في أرضها وثرواتها والاعتراف باستقلالها الوطني.
إنّ المنطقة، اليوم، لم تعد كما كانت عشية اتفاقية سايكس وبيكو ونهاية الحرب العالمية الأولى عندما قسمت بلادنا إلى دول وأنظمة تعمل لصالح الدول الاستعمارية كفرنسا وبريطانيا، أو كما تريد الولايات المتحدة الأميركية اليوم لشعوبنا أن تكون عبيداً عندها. نعم، المنطقة تغيّرت بفعل إرادة شعوبها الحرة ورؤيتها الجديدة القائمة على التعلق بسيادتها وقرارها الوطني المستقلّ ومستعدة للدفاع عنها وعن حرية خياراتها السياسية والاقتصادية والتمسك بهويتها الوطنية والقومية التي صنعها تاريخها وحضارتها عبر الأجيال وعلى مرّ التاريخ…