آخر الكلام
رسالة إلى صاحبة الجلالة… أمّي*
الياس عشّي
ليتني أستطيع أن أخترع أبجديةً أشكر بها أمّي التي منحتني شرفَ أن أولدَ قبل يومين من ولادة الربيع، ويومين من عيد الأمِّ… عيدِها .
ليتني أستطيع أن أستعيد كلماتِها الهادئةَ والبسيطةَ لتكون بدايةَ الأبجدية التي أبحث عنها. أليس الكلام البسيط هو الكلام الجميل؟
ليتني أستطيع أن أخبرَها كم أنا فخور بها وقد وهبتني الشعور بالاعتزاز وأنا أولد فوق أرضٍ لم تركع أبداً أمام الغزاة، ولم تكفَّ يوماً عن تقديم الشهداء لتبقى حيّةً في عروقنا.
ليتني أستطيع أن أشدَّ على يدَي أمّي، وأمسحَ دموعَها، وأشاركها سبحتها البتوليةَ، وأعودَ تحت جناحيها إلى أيامِ زمان، يوم كانت سوريةُ منتجعاً واحداً، وآمناً، من أقصاها إلى أقصاها.
ليتني أستطيع أن أعيدَ إلى ذاكرتي نرجيلتَها التي لم تتوقف عن الغناء إلّا بعد أن أعيى المرض أمّي. كان خروج نرجيلة أمّي من جلساتنا المسائية الدافئة والحميمة مؤشّراً على موت الأشياء الجميلة من حولي.
ليتك يا أمّي ترين الأشجار التي كانت تسوّر بيتنا وقد هجرتها العصافير، فغادرت جذورها، وأخذت معها الظلال التي طالما تفيّأنا بها، وأحواض الزهر المالئةَ حديقَتنا .
ليتني كنت قادراً على أن أنقل إليكِ مشهد الأمهات الثكالى اللواتي استودعنَ أولادهنّ أمانة في عنق الوطن، ثم علت الزغردات في كلّ مكان، ثمّ صار الشهداء قلادةَ على صدر قاسيون.
***
في عيد الأمّ أعترف، يا أجمل السيدات، أنّ لفظة «ماما» التي تغرغرتُ بها في أول خطاب لي، تبقى الأجملَ والأبهى والأبلغ بين الكلمات كلِّها التي قلتها، أو كتبتها، خلال سنوات طويلة في تجاربي الأدبية.
في عيد الأمّ أشعر، يا صاحبة الجلالة، بأن الإيمان بالتقمّص جميل، أقلّه أنني أرصد، من خلاله، عودة من خطفهم الموت منّا.
في عيد الأم أكتشف، يا أم روبير، أنّ الإنسان يولد باكياً لأنه يغادر رحِمَ أمِّه الأكثرَ دفئاً في العالم.
وفي عيد الأمّ لا أجد وردة واحدة بنقائكِ، فكيف كيف أحتفل، يا أمّاه بعيدك؟
*من كتابي الأخير « قرأت لهم .. كتبت عنهم … أحببتهم»