المقاومة في مواجهة نفاق حكام الغرب ووحشيتهم
} د. عدنان نجيب الدين
يمتدّ النفوذ الغربي ولا سيما الأميركي على امتداد الكرة الأرضية من خلال عناصر قوة أبرزها التقدّم العلمي والعملة الخضراء والثقافة وآلة الحروب العسكرية والأمنية.
وسنتناول باختصار شديد هذه العناصر فنقول:
أولاً، لا أحد ينكر ما توصّل إليه الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية من اكتشافات واختراعات على مستوى العلوم والتكنولوجيا بحيث بات العالم كله مندهشاً أمام كلّ هذه الإنجازات التي حققها، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، في وسائل الاتصالات والنقل البري والبحري والجوي وصناعة الأدوية والتجهيزات الطبية والأسلحة بمختلف تصنيفاتها وأجهزة التجسّس والاقمار الصناعية والمعلوماتية إلخ…
ثانياً، سلّمت دول العالم الثالث للغرب بإنجازاته باصمة له بالأصابع العشرة، وجعلته القدوة والمثال، وراحت تبني برامجها التعليمية مستفيدة من كلّ تلك الاكتشافات العلمية وما أحدثته فلسفات عصر الأنوار والحداثة وما بعدها من تغيير في أنظمة الحكم ومناهج التفكير الغربية، وكذلك آمنت النخب السياسية في معظم دول العالم بتلك الأفكار وبالديمقراطية وسائر القيَم مثل شرعة حقوق الإنسان والطفل والمرأة إلخ… واعتبرت انّ ما ورد فيها خلاص للبشرية وسعادتها لأنها تحقق مبادئ الحرية والعدالة والسلام والتطور الاجتماعي والاقتصادي وتحرير الشعوب من براثن الفقر والتخلف والظلامية.
وانتشرت اللغة الانكليزية في العالم كأداة للتواصل بين شعوب العالم المختلفة ألسنتها، وكذلك راحت مراكز النفوذ الغربية تروّج لتلك الثقافة وتسهم في تعميمها من خلال «المساعدات» المقدّمة للدول النامية على الصعيد التربوي والبرامج الاقتصادية والاجتماعية ضمن شروط وإغراءات وإجراءات تربط تلك النخب بمراكز القرار في الغرب، وجاءت وسائل الإعلام الغربية التابعة للقوى الرأسمالية لتقوم بصناعة الرأي العام في العالم من خلال الأخبار التي يختلط فيها الصحيح بالمزيف، وكذلك الإنتاج السينمائي الذي حظي بأعلى نسبة مشاهدة بين شعوب العالم.
ثالثاً، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية توّجت الولايات المتحدة الأميركية نفسها ملكة على عرش للعالم وقائدة له لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وخلوّ الساحة لها وحدها، فراحت تبسط نفوذها في مختلف القارات على الصعد كافة. وساعدها في ذلك أنها استطاعت أن تثبت للعالم قوّتها المطلقة وخاصة بعد إلقائها القنبلتين النوويتين على هيروشيما ونكازاكي في اليابان وأنهت بذلك الحرب العالمية الثانية، فسلمت لها الدول كافة بما في ذلك الدول الغربية بالقيادة. ثم أطلقت عملتها الدولار الأميركي كعملة عالمية بعد أن أجبرت الدول الغربية وكثير من الدول الأخرى على رهن ممتلكاتها من الذهب مقابل مساعدتها لإنجاز مشاريع عملاقة، كمشروع مارشال في أوروبا، لبعث النهوض الاقتصادي والمالي لهذه الدول. هذا فضلاً عن أنّ كلّ المعاملات المصرفية الدولية يجب أن تمرّ عبر وول ستريت في نيويورك.
وهكذا سلّم العالم بالمكانة التي تفرّدت بها الولايات المتحدة على الصعد كافة لا سيما على الصعيد العلمي والتكنولوجي وكذلك على الصعيد الاقتصادي.
رابعاً، التفوّق العسكري: رأى الكثيرون من النخب السياسية والفكرية في بعض دول العالم حلماً جميلاً يتمثل في الولايات المتحدة الأميركية كأمة حرة تريد الحرية والازدهار لباقي دول العالم، وتأسّست أحزاب وحركات اجتماعية وروابط أدبية راحت تكتب وتروّج للغرب وأميركا وتعتبر الولاء لسياسات الغرب والانضواء تحت مظلتها خشبة الخلاص يمكن الركون إليها بعد أن عانت تلك الشعوب من الاضطهاد والاستغلال على أيدي القوى الاستعمارية وخاصة البريطانية والفرنسية اللتين بدأتا تخسران مستعمراتهما أمام ثورات الشعوب المطالبة بالاستقلال…
ولم يطل الأمر حتى بدأت الولايات المتحدة الأميركية تبسط نفوذها العسكري في كلّ مكان لترث بريطانيا وفرنسا اللتين تراجع دورهما بعد الحرب. وهكذا، بدل أن تجعل من إنجازاتها العلمية والتكنولوجية منارة تشعّ بها على العالم، وبدل أن تجعل من قوتها الاقتصادية والمالية جسر تواصل وتعاون يؤدّي الى تقدّم العالم وأزدهاره، نحت باتجاه استخدام قوتها للهيمنة على دول العالم ونهب ثروات الشعوب.
ومن مظاهر بسط قوتها العسكرية والأمنية على العالم أن أقامت الولايات المتحدة الأميركية في مختلف البلدان مئات القواعد العسكرية لها في كلّ مناطق النفوذ التي حصلت عليها بالترهيب. أو الترغيب، ونشرت أساطيلها في البحار والمحيطات، وأرسلت جيوشها في مهمات قتالية الى العديد من البلدان وخاضت عشرات الحروب الجائرة ضدّ شعوبها في أميركا اللاتينية مثل كوبا ونيكاراغوا وفي آسيا مثل فيتنام وكوريا وكمبوديا وكذلك في لبنان والعراق وأفغانستان وفي أفريقيا مثل الصومال والكونغو وحتى في أوروبا مثل البوسنة والهرسك في محاولة منها لإخضاع شعوب تلك البلدان وجعلها تنضوي تحت سيطرتها، واليوم تقاتل روسيا من خلال تزويد أوكرانيا بالأسلحة والأموال، فضلاً عن الحروب بالواسطة التي أسمتها الثورات الملونة كما حصل في جورجيا وأوكرانيا، وفي منطقتنا العربية من خلال «الربيع العربي» الذي استخدمت فيه منظمات إرهابية أسّستها على عقيدة «إسلامية» مزيفة وفي جوهرها إرهابية تكفيرية لا تقبل الآخر المختلف وتسعى لقتله فقامت الفتن الطائفية وارتكبت المجازر وجرى تهجير الملايين من شعوب تلك الدول كما حصل في سورية والعراق وليبيا… كلّ ذلك كان لإسقاط أنظمة سياسية انتهت «صلاحيتها» كما حصل في مصر وتونس، او لأنها معارضة لهيمنتها، فسعت لاستبدالها بأنظمة أخرى تدين بالولاء المطلق لها. ولم تبخل الولايات المتحدة والغرب في دعم الكيان الصهيوني كقاعدة عسكرية متقدمة في شرق البحر المتوسط، كما كانت تدعم شاه إيران الذي كان عصاها الغليظة في وجه دول المشرق العربي. ومن هنا نشأ التحالف بين الشاه و»إسرائيل» إلى أن قامت الثورة الإسلامية في إيران التي أطاحت بالشاه، وتبنى نظام الحكم الجديد في الجمهورية الإسلامية بقيادة الإمام الخميني القضية الفلسطينية، وجعل مسألة تحرير فلسطين والقدس الشريف عقيدة ومادة في الدستور الإيراني الذي أقرّه الشعب في استفتاء عام. ولذلك قامت بدعم الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية ضدّ الكيان الصهيوني الغاصب بكلّ أنواع الدعم السياسي والمالي والتقني بما في ذلك السلاح المتطوّر والعتاد كما دعمت كلّ المقاومات العربية التي تريد الخلاص من الكيان الصهيوني الغاصب والهيمنة الأميركية والغربية على المنطقة، وسعت إيران لامتلاك كلّ وسائل التقدم العلمي والتكنولوجي بما في ذلك امتلاك القدرات النووية للأغراض السلمية، لكنها حرّمت إنتاج القنابل النووية وكلّ أسلحة الدمار الشامل كالتي يمتلكها الغرب ودول أخرى. وهكذا استطاعت أن تصبح قوة إقليمية عظمى، فاستفادت منها المقاومة اللبنانية المتمثلة بالمقاومة الإسلامية واستطاعت بالدعم الذي تلقته من الجمهورية الإسلامية تحرير الجنوب اللبناني من براثن الاحتلال الصهيوني، كذلك استفاد الشعب العراقي في مقاومته ضدّ الاحتلال الأميركي، ولم تبخل على سورية بدعمها في وجه التنظيمات الإرهابية، كذلك دعمت اليمن سياسياً وتقنياً في تصدّيه للتحالف العدواني ضده.
خلاصة القول: انّ شعوب دول العالم الثالث التي بهرت بالفكر الغربي وعلومه، تفاجأت بأنّ القوى الرأسمالية هي التي تحكم الغرب وتريد السيطرة على موارد الأرض وخيراتها، ولا علاقة لها بالعلم إلا من زاوية استخدامه لتطويع الشعوب ونهب ثرواتها، وان نوعاً جديداً من الهيمنة الامبريالية أكثر ظلماً وأكثر توحشاً قد راح يغزو بلدانها بقناع حضاري يخفي تحته كلّ أنواع التوحش والهمجية، وهذا ما شهدناه في حروب أميركا بقتلها ملايين البشر في الدول التي غزتها وبتعذيبها المعتقلين من دون رحمة. وليست الحرب الضروس، حرب الإبادة الجماعية التي تشنها «إسرائيل» ربيبة الغرب وقاعدته الأمامية في منطقتنا، إلا نموذجاً من هذه الوحشية الغربية المتمثلة بأنظمة النفاق السياسي والطمع في خيرات البلدان الأخرى. وللأسف وجد الغرب والكيان الصهيوني من يروّج لأضاليلهما في بعض بلداننا، وما يتفوّه به البعض عندنا في لبنان وبعض البلدان العربية من أكاذيب وتهجمات على المقاومة التي تتصدّى بأعلى درجات العلم والمهارة في استخدام التقميات الحديثة، يديرها عقل واع وحكيم، متميّزة ببطولات رائعة في تصدّيها لآلة الحرب الهمجية الصهيونية في غزة والضفة وجنوب لبنان، وكذلك المقاومة في العراق واليمن…
صحيح أنّ شعوبنا المقاومة تدفع أثماناً باهظة في هذه الحرب العدوانية، لكن حرية الأوطان والشعوب تستحق كلّ هذه التضحيات الجسام. فالجزائر دفعت أكثر من مليون ونصف مليون شهيد، من أصل تعداد سكاني لا يتجاوز الثمانية ملايين في ذلك الوقت، حتى حصلت على استقلالها، ولو استمع ثوار الجزائر إلى أقاويل خصوم المقاومة ضدّها لبقيَ هذا البلد محتلاً من الفرنسيين حتى اليوم. أما الذين تعاملوا مع المحتلّ الفرنسي وخرجوا معه الى فرنسا بعد الاستقلال، وبالرغم من أنهم يتقنون اللغة الفرنسية ويقلدون الفرنسيبن بمظهرهم وعاداتهم، وحصلوا على الجنسية الفرنسية، ما زالوا هم وأبناؤهم وأحفادهم يعاملون كفرنسيين من درجة ثانية، لأنّ المستعمرين عنصريون بطبيعتهم، ويحتقرون كلّ من يتعامل معهم ويؤدي لهم خدمات…
وكما الجزائر، كذلك فعلت المقاومة العراقية لتحرير العراق، وهكذا فعلت مقاومة شعبنا في لبنان ضدّ الاحتلال الصهيوني للجنوب، وكان كثيرون يتهمونها بأنها تستفز العدو الصهيوني لقصف قرانا وبنانا التحتية، ولو استمعت لهم المقاومة وانتظرت تنفيذ القرارات الدولية لما خرج العدو من بيروت وسائر المناطق المحتلة، ولبقيَ الجنوب محتلاً حتى اليوم وربما عمّت المستعمرات الصهيونية مساحة لبنان الجغرافية بأكملها. وكان سيصيبنا ما أصاب شعبنا في فلسطين والذي استبيحت أرضه وخسر وطنه وأصبح معظمه لاجئاً في بلدان الشتات، وذلك في ظلّ صمت دولي وقرارات أممية لم ينفذ العدو منها شيئاً على امتداد ثمانية عقود من السنين.
أنّ أنظمة الغرب السياسية شريكة في المجازر التي تقوم بها قوات الاحتلال في غزة من خلال إمداد العدو بالأسلحة الثقيلة المدمّرة ودعمها السياسي له في مجلس الأمن بحجة «حق الاحتلال بالدفاع عن نفسه»! لكن لنا ملء الثقة بأنّ مقاومة الشعب الفلسطيني وتضحياته الجسام لن تذهب سدى بل ستثمر نصراً وتحريراً بإذن الله…