الصدق سفينة نجاة البشرية…
سارة طالب السهيل
تحنّ فطرتنا الإنسانية للعيش زمن الأجداد، وترى فيه جمالاً كن نظنّه استجابة لحاجتنا إلى التواصل مع جذورنا، ولكننا بعدما عشنا وقائع حياتنا المعاصرة وما تموج به من علوم تقنية فائقة وسياسات دولية تقهر الشعوب، وتسلب أقواتها وتدمّر دولها، وتعدم استقرارها وتقضي على ثوابتها الأخلاقية والدينية، وتوظف علومها الحديثة من وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام بكلّ أقسامه في نشر الكذب والخديعة والأوهام، أدركنا سرّ انجذابنا لزمن الأجداد حيث راحة البال والأمن والطمأنينة بفعل صدقهم وأمانتهم.
عالمنا المعاصر بات يعايش الأكاذيب كما يأكل ويشرب ويتنفس، والغريب أنه يصدّقها من كثرة إلحاح “الميديا” عليه كالسحر، فصار الكذب هو الصدق! والنتيجة كما انتشار القلق والخوف والأمراض النفسية والعضوية وفقدان الثقة بين الناس، لأنّ الإنسان خالف فطرته السوية التي تستوجب قيمة الصدق في نفسه، وفي التعامل مع الآخرين.
قد يبرّر البعض اللجوء إلى الكذب رغم أنه محرّم أخلاقياً، وفي كلّ الأديان السماوية والثقافات والحضارات عبر تضليل الناس بمعلومات مغلوطة بكلّ صوره في البناء والتعليم والصحة والتجارة والسياسية، بأنّ له الغلبة الظاهرة، وأنه لا يمكن تحقيق المصالح بدون الالتفاف على الحق والصدق، فصار الزيف الذي هو عملة العصر طريق أقصر لجلب المنافع، وهذا التبرير قادنا إلى نقص الخيرات في الأرض وانتشار الأوبئة والأمراض وهلاك الطبيعة، فأيّ منافع نحققها بالكذب والغش؟!
الواقع أثبت أنّ الكذب أدّى إلى خسارة الثقة والصداقة، والشك والحزن، وجعلنا نعيش في عالم من الوهم والخيال، وأبعدنا عن الواقع والحقيقة، وأضعف شخصيتنا وثقتنا بأنفسنا، لأنّ الكذب يقترن بارتكاب الجرائم مثل الغش والنصب والسرقة، كما يقترن ببعض المهن مثل الدبلوماسية أو الحرب النفسية الإعلامية.
والكذب هو من خصال المنافق، كما وصفه النبي محمد “أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهم كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر”.
ويقول رسول الله: “عليكم بالصِّدق، فإنَّ الصِّدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنَّة، وما يزال الرَّجل يصدق، ويتحرَّى الصِّدق حتى يكتب عند الله صدِّيقاً. وإيَّاكم والكذب، فإنَّ الكذب يهدي إلى الفُجُور، وإنَّ الفُجُور يهدي إلى النَّار، وما يزال الرَّجل يكذب، ويتحرَّى الكذب حتى يُكْتَب عند الله كذَّاباً” ـ صدق رسول الله الكريم.
ضرورة الصدق من هنا تصبح حاجتنا إلى استعادة الصدق في حياتنا ضرورة كحاجتنا إلى الماء الهواء والطعام، لأنّ الصدق في حدّ ذاته باب تفتح به مغاليق أساسية لسعادتنا وأماننا، حيث يتشعّب منه الصبر، والقناعة، والزهد، والرضا، والأنس والإخلاص واليقين، والخوف والمحبة.
ولذلك يعدّ الصدق أحد أهمّ القيم الأخلاقية التي يجب أن نتحلى بها في حياتنا، بوصفه مطابقة القول للفعل والوفاء بالعهود والوعود وما يجلبه لنا الثقة والاحترام وإشعارنا بالسعادة والرضا وحمايتنا من المشاكل والندم، وتطوير شخصيتنا ومهاراتنا وحب الخير للجميع.
وفي واقعنا اليومي تموج وسائل التواصل الاجتماعي بأكاذيب سياسية ودينية واجتماعية تفرق الأمم، وتفتّ في عضد الدول، وتهدم الأسر وتهدم اقتصاديات الدول، وتروّج لأديان فاسدة، وقلما أن تجد كلمة حق صادقة من كثرة الأباطيل الكاذبة التي تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، والنتيجة أنّ المجتمع الإنساني فقد بوصلة الأمان الاجتماعي والنفسي والسكينة الطمأنينة، وصار تائهاً في بحار من الضمات.
يظلّ الصدق هو سفينة النجاة التي تنجي البشرية من الغرق الذي نعيشه في عالمنا المعاصر – خاصة أنّ الصدق من صفات الله كما قال في محكم كتابه: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً”؟
والصدق من صفات الأنبياء والرسل كما في القرآن الكريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً “مريم 41”.
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً*وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا، وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً “مريم 49، 50″.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً «مريم 54″.
إدريس: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً، وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً «مريم 56″.
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ «يوسف 46″.
أما نبينا المصطفى محمد فكان أصدق الناس علماً وعملاً قبل بعثته بالرسالة ملقباً بالصّادق الأمين، وبعد تحققه بالوحي السماوي أطلق عليه أصحابه «الصّادق المصدوق”.
أما رب العزة، فقد نزه المصطفى عن الغواية، وهوى النفس كما في قوله: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ، وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى «النجم 2 – 4″.
والصدق من صفات المتقين كما أخبر الله في كتابه: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ، وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ «الزمر 33″.
تعدّد مجالات الصدق؛ بدءاً بالصدق مع الخالق مصداقاً لقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ.
والصدق في النيات بحيث ينطبق ظاهر الإنسان مع باطنه وصدق في النية بالعمل.
والصدق في الأقوال، فلا ينطق لسانه إلا بصدق وقول الحق الصدق في القول يستوجب على الإنسان أن يحفظ لسانه فلا يتكلم إلا بصدق، ولا ينطق إلا بحق، ولذلك قال الحكماء، أحسن الكلام ما صدق فيه قائلهُ، وانتفع بهِ سامعهُ، وإنّ الموت مع الصّدق خيرٌ من الموتِ مع الكذب.
إن البشرية كلها باتت في أشدّ الحاجة إلى استعادة توازنها النفسي والشعور بالأمان الداخلي والطمأنينة، وهذا ألا يتحقق بمعزل هجر الكذب والعودة إلى الصدق، فعلى كلّ تاجر أن يتحرّى الصدق في ترويج سلعته، ويتوقف فوراً عن الحلف كذباً، وعلى أصحاب الحرف والمهن أن يتحرّوا الصدق في المواد التي يستخدمونها، وفي مواد الصناعة والبناء، وعلى الموظفين تحرّي الصدق في مواعيد عملهم وقضاء مصالح الناس وفق معطيات وظائفهم، وعلى الساسة وأصحاب المناصب العليا أن يتحرّوا الصدق في ما يعلنونه وما يتخذونه من قرارات في صميم حياة الناس اليومية.
أما أصحاب العلم والفكر والإعلام ورجال الدين وغيرهم من الفئات التي تشكل وعي الناس فهم الأجدر على تبني الصدق قولاً وفعلاً؛ لأنهم هم الذين يشكلون ذائقة الصدق والإخلاص في ما يقدّمونه للناس، فيجب ألا يقدّموا لهم سوى كلّ ما هو صادق ومخلص، حتى لا تسمّم عقولهم وأفكارهم وجوارحهم بالزيف والغش.
وللإعلام الصادق دور رئيسي في كشف الزيف ونشر الوعي بالصدق ومحاربة الزور والبهتان واختلاق الأزمات بين الفرق الدينية، وإلصاق التهم جزافاً بالشرفاء تشويهاً لسمعتهم. وهنا أيضاً يبرز دور المجتمع نفسه أن يحارب الكذب بعدم تصديق الإشاعات التي تهدم الأوطان، وتدمّر الكيانات الأسرية والاجتماعية، فتمحيص وتدقيق الأنباء عملاً عقلياً ومنطقياً قبل أن نشرع بإصدار أحكامنا على الآخرين، أو نصدق عنهم إشاعات مغرضة قيلت بحقهم زوراً وبهتاناً، مصداقا لقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نادمين.
الصدق وبناء الشخصية
ولذلك يعدّ الصدق مفتاحاً رئيسياً في بناء شخصية الإنسان وتطوير حياته، حيث يقوده الصدق إلى تنفيذ الوعود والالتزامات الواجبة عليه في تعليمه المستمر لتطوير عقله والتزوّد بالمهارات، وفي الوفاء بحقوق الأهل والجيرة وزملاء العمل وأداء حقوق العمل على الوجه الأكمل، مما يُشعر الآخرين بالثقة والأمان في التعامل معه دونما غدر أو خذلان.
كما أنّ الصدق يدفع صاحبه إلى الاعتراف بالخطأ بعيداً عن الكبر والمعاندة وما يستتبعه ذلك من تصحيح هذه الأخطاء، فيظهر للآخرين مدى نزاهة هذا الشخص الصادق؛ مما يخلق في نفوسهم الثقة به، وتتكامل عناصر الثقة النابعة من الصدق الداخلي للإنسان بسعيه إلى مساعدة الآخرين في العمل والمنزل، مما يجعله مدعاة للاحترام والتقدير.
تنعكس أخلاق الصدق في النفس الإنسانية، فتجعل صاحبه أكثر صراحة ووضوحاً، ولا يدّعي لنفسه ما ليس له من المعارف، ويعرف قدر نفسه من المعرفة دون نقص أو مزايدة، فإذا سئل عن شيء يعرفه في العمل، فيقرّ بمعرفته إنْ كان لا يعرفه يقرّ بعدم معرفته احتراماً لنفسه وللآخرين، بل وقد يسعى لمعرفة ما ينقصه من مهارات ضرورية في العمل إذا تطلب الأمر ذلك مما يجعله محلاً لثقة الناس ومحبتهم.
يا أيها الناس بكلّ بساطة كونوا صادقين وربوا أولادكم من الصغر على الوضوح فالوضوح ثقة بالنفس واعتزاز.
وتحرّوا الصدق، ولا ترضوا إلا بالحقيقة، اخلعوا عنكم هذه الوجوه لسنا في حفل تنكري، أزيحوا الأقنعة وانظروا إلى أعين بعضكم البعض ابحثوا عن الصدق، فالصدق نجاة…