المعجزة الفلسطينية غير قابلة للتفسير
ناصر قنديل
كتابة التاريخ تستحق للشعوب التي لا تنطبق عليها قواعد التوقعات وعلم الاحتمالات، التي تضعها الدراسات العلمية المؤسسة على تجارب وخلاصات مراقبة علم الاجتماع السياسي عبر ظواهر تاريخية مع مراعاة تغير الأماكن والأزمنة. وسوف يقتنع كل من يقرأ نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية المسحية في رام الله عن الفصل الأول من العام 2024، وشمل عينات من الضفة الغربية وغزة موزعة على الشمال والجنوب وأماكن النزوح بنسب موازية لوقائع توزيع الثقل السكاني. وبالنظر لكون مركز المؤسسة في رام الله وغياب سيطرة حركة حماس عن الضفة الغربية وغزة، ونظراً لتعاون المؤسسة مع مجموعة دراسات كونراد أديناور، وهي مؤسسة ألمانية موالية للحزب الديمقراطي المسيحي، فإن الأرقام التي تظهر التأييد المرتفع لحركة حماس أو لأطروحاتها ومواقفها ورموزها، لا يمكن النظر إليها بعين الشك والريبة.
في استطلاع الرأي الكثير مما يمكن قراءته والتوقف أمامه، لكن ما سوف نركز عليه ونلقي عليه الأضواء يتصل بمحاولة فهم تأثير حرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزة، وحرب الإخضاع والترويض التي تشنّ عليهم في الضفة الغربية، ومدى التغيير الذي أدخلته هذه الحرب الضارية في طريقة نظر الفلسطينيين الذين يقولون في الاستطلاع إن 60% منهم فقدوا فرداً أو أكثر من عائلتهم، و80% منهم أصيب من عائلتهم فرد أو أكثر، ولا يملك 55% منهم ما يكفيهم من الطعام ليوم أو يومين، وبعد ستة شهور من حرب تمّ تدمير أكثر من ثلثي مساكن قطاع غزة خلالها، وتشريد أكثر من 70% من سكان القطاع إلى خارج أماكن سكنهم، يتوقع الباحث أو القارئ أن الأولوية سوف تكون لدى غالبية هؤلاء وقف الحرب بأي ثمن والحصول على مأوى وطعام ودواء، مهما كانت الصيغة وكان المقابل، ويمنحون ترجيحاتهم في التصويت لصالح خيارات يمكن التطلع لقدرتها على تقديم هذه الخيارات وتسهيلها، فماذا يقولون؟
حول تقييم الحدث الذي فجّر الحرب وهو طوفان الأقصى، اللافت أن الجواب في غزة على سؤال، هل تعتبر أن ما جرى في 7 أكتوبر من حركة حماس كان عملاً صائباً، يأتي بنسبة 71% نعم، مقابل 57% في استطلاع شهر كانون الأول (ديسمبر) عن الشهور الثلاثة الأخيرة من عام 2023، بينما الجواب في الضفة الغربية 71% مقابل 82% في الاستطلاع السابق، وهو استطلاع في توقيت كانت فتح والسلطة تتعاملان بموقف غير عدائي تجاه حماس وطوفان الأقصى، ما يفسّر تبدل بنسبة 11% لكن مع بقاء نسبة 71% نعم، هي ذات نسبة قطاع غزة. وهذا بذاته كافٍ لمعرفة ان الحرب بكل ويلاتها لم تنجح في إضعاف اصطفاف الفلسطينيين وراء خيار المقاومة، الذي كان طوفان الأقصى أقوى وأخطر وأعظم تجلياته، وقد دفع الفلسطينيون أثماناً باهظة نتيجة الحرب التي قيل لهم إنها رد عليه، لكنهم جاؤوا بمفاجأة ثانية عندما قالوا إن أميركا و”إسرائيل” تتقاسمان المسؤولية عن معاناتهم وما تعرّضوا له من ويلات الحرب. وعندما قالوا إنهم لن يغادروا الى مصر إذا سقط الجدار. وكذلك عندما طالبوا باستقالة محمود عباس، وقالوا إنهم يمنحون تصويتهم لإسماعيل هنية إذا ترشح في مواجهة عباس، بنسبة 70 الى 30.
94% يصفون ما يقوم به جيش الاحتلال جرائم حرب، و95% يرفضون الحديث عن ارتكاب حماس جرائم حرب خلال الطوفان، وهم واثقون بأن حماس سوف تخرج منتصرة من هذه الحرب، بنسبة أعلى من قبل ثلاثة شهور، وهم واثقون أن حماس سوف تحكم غزة بعد الحرب، ويرفضون كل البدائل إذا عاد الاختيار لهم، فلا قوات عربية مرحّب بها، ولا السلطة الفلسطينية تلقى قبولهم، ولا الأمم المتحدة موضع اطمئنان عندهم، و83% لا يرون الكلام الأميركي عن حل الدولتين جدياً، و70% منهم راضون عن أداء حماس في الحرب والمفاوضات، وكانت 85% في الضفة قبل ثلاثة شهور وفقدت 10% مع صدور مواقف عدائية من فتح تجاه حماس، ويمنحون تقديرهم الخاص لجنوب أفريقيا والدول التي قاطعت كيان الاحتلال، ويمنحون بين الدول الكبرى لروسيا تصويتهم كدولة عالمية وإيران دولة إقليمية واليمن كشريك مساند (80%) يليه حزب الله، وينظرون لقطر التي تستضيف قيادة حماس بتمييز عن سائر الدول العربية.
هذا هو المزاج الشعبي الفلسطيني في الضفة وغزة، انتصار لخيار المقاومة ويقين بانتصاره، وفي غزة خصوصاً يقين وثقة بما تقوم به المقاومة وما يقوم به محور المقاومة، رغم الحرب ورغم الدمار والمذابح والإبادة والتشريد. فليعلم العالم أي معجزة يقدم هذا الشعب العظيم.