أولى

طوفان الأقصى والمبادرة الاستراتيجية… «إسرائيل» سقطت

‬ محمد صادق الحسيني

لا بدّ لأيّ نظرة تحليلية موضوعية، لمعركة طوفان الأقصى، التي تدور رحاها منذ ما يقرب من ستة أشهر، أن تقرأ فصول هذه الملحمة التاريخية، وتداعياتها وأهميتها الاستراتيجية وتأثيراتها على الصراع، بين المشروع الصهيوني الاستعماري الغربي، الذي أنشأ كيان العدو على أرض فلسطين، وبين حركة التحرر الوطني العربية، في إطار تطورها التاريخي.
كانت حرب السادس من تشرين، سنة 1973، بين الجيشين المصري والسوري من جهة وبين جيش العدو الصهيوني من جهة أخرى، على جبهتي سيناء والجولان، وما حققه هذان الجيشان العربيان من نجاحات باهرة، باختراقهما تحصينات العدو العسكرية، في سيناء والجولان، وتدمير 80% من سلاح الجو وسلاح الدبابات الإسرائيليين، الأثر الكبير والمدمّر على الصراع بين المشروعين المذكورين أعلاه لولا إفراغ الخائن السادات، تلك النجاحات من جوهرها وتحويل النصر العسكريّ إلى هزيمة سياسية، كان لها أسوأ الأثر، على القضية الفلسطينية.
وقد كانت أولى النتائج السلبية المدمرة، لما أفضت إليه تلك الخيانة، هو الغزو الإسرائيلي للبنان في السادس من شهر حزيران 1982، والذي أسفر عن إرغام قوات الثورة الفلسطينية على مغادرة لبنان.
إلا انّ القوى اللبنانية المقاومة، التي كانت منضويةً في إطار القوات المشتركة اللبنانية الفلسطينية، في سبعينيات القرن الماضي، وبروز دور عسكري هام لما عُرف لاحقاً بالمقاومة الإسلامية في لبنان (حزب الله)، شكلت رافعةً لقوى الثورة وإحياء المقاومة من جديد، في مواجهة مشروع الاستعمار الغربي في المنطقة.
واصلت هذه القوى التصدّي لنتائج الغزو العسكري الإسرائيلي للبنان، وما نتج عنه من إقامة شريط لبناني محتل، الى ان تمكنت في العام 2000 من إلحاق هزيمة ساحقةً، بجيش الاحتلال الإسرائيلي، وأرغمته على الانسحاب الكامل من جنوب لبنان، دون قيد أو شرط.
وعلى الرغم من أهميّة هذا الانتصار، الذي حققته المقاومة اللبنانية في حينه، إلا أنه لم يكن قد وصل الى مستوى المعركة الاستراتيجية أي الشاملة مع العدو.
هذا المستوى تحقق في ما بعد بانتصار المقاومة الإسلامية، في حرب تموز 2006، مدعومة من الجمهوريه الإسلامية الإيرانية والجمهورية العربية السورية، وهو الانتصار المدوّي الذي قلب معادلة الصراع رأساً على عقب.
لقد شكلت حرب تموز 2006 بمثابة نقلةً نوعيةً مهمةً، في الصراع العسكري بين قوى المقاومة وقوى العدو الصهيوأميركية، وذلك لأنها ألحقت بالعدو هزيمةً عميقةً، اتضحت أعماقها وأبعادها لاحقاً.
لقد خاض جيش العدو، حتى تاريخ هذه الهزيمة، معارك خاطفةً ضدّ جيوش نظاميةً كانت تعاني من ما تعانيه، من طبيعة القيادات السياسية الرسمية العربية، في حينه، بينما قاتلت في حرب تموز قوات فدائية، ذات عقيدة وقدرات قتالية لم يعتَدْ عليها العدو، حرمته من تحقيق ايّ نجاح، من خلال تكتيك خوض الحرب بشكل خاطف وعلى أرض العدو.
وعليه فإنّ حرب تموز شكّلت نقلةً استراتيجيةً، في أداء قوى المقاومة العربية، الأمر الذي مهَّد الطريق، الى فقدان العدو للمبادرة الاستراتيجية، في شنّ اعتداءات عسكرية خاطفة واحتلال أراضٍ عربية جديدة، على الرغم من أنه كان يواصل المحاولات لاستعادة المبادرة الاستراتيجية في الميدان، تارةً باستخدام المجاميع المسلحة وتارةً بشنّ عمليات عسكرية محدودة بشكل مباشر، خاصةً على أراضي الجمهورية العربية السورية.
كان هذا الوضع أشبه بمعركة ستالينغراد التي خاضتها الجيوش السوفياتيّة، المكلفة بتحرير مدينة ستالينغراد، ضدّ جيوش الاحتلال النازي الألمانية، التي كانت تحتلّ المدينة آنذاك. اذ تمكنت القوات السوڤياتية، التي كانت تضمّ ثمانية عشر جيشاً، تعدادها مليوناً وثمانمئة ألف جندي، من تحرير المدينة مطلع سنة 1943، بعد أن سحقت القوات الألمانية المدرّعة، بقيادة الجنرال باولوس، وألحقت بها هزيمة استراتيجية ثقيلةً، لم تنجح في التعافي منها ودخلت برلين فاتحة محرّرة.
لقد حاول الجيش الإسرائيلي، بعد هزيمته في حرب تموز 2006، التعافي من الهزيمة، ووضع الكثير من الخطط والمقترحات، بهدف ما سمّوه استعادة الردع، سواءٌ على جبهة جنوب لبنان او على جبهة قطاع غزة.
وانطلاقاً من هذه الأوهام، باستعادة الردع، قام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتنفيذ سلسلة من الحروب والاعتداءات الواسعة النطاق على قطاع غزة، منذ عام 2006 بعد عملية أسر الجندي الإسرائيلي، لم يستطع العدو خلالها تحقيق أيّ من أهدافه، الأمر الذي أدخله الى فترة مراوحة استراتيجيّة (عجز عن الفعل) رغم حملة الاعتداءات الجوية، على الأراضي السورية، والتي أطلق عليها الاسم الرنان: «المعركة بين الحروب»، بهدف إقناع نفسه وإقناع جمهوره بأنه يخوض حرباً ويحقق انتصارات واهمة!
حتى جاء طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر سنة 2023، لينسف ليس فقط أكاذيب العدو الصهيوني وجيشه، وإنما ليدمّر الأسس العميقة للمشروع الاستيطاني الصهيوني الاستعماري الغربي في فلسطين المحتلة.
فقد أتى طوفان الأقصى لينتزع المبادرة الاستراتيجية، مرة وإلى الأبد، من أيدي جيش العدو، الذي فقدها في حرب تموز سنة 2006، في لبنان، تماماً كما حصل مع الجيوش النازية الألمانية في معركة كورسك الشهيرة، الواقعة على الحدود الغربية الروسية الأوكرانية حالياً والتي تتساقط مجدّداً أمام انتصارات الروس.
إذن فإنّ ما تقوم به قوات الغزو الصهيوني، في قطاع غزة، منذ انطلاق طوفان الأقصى وحتى اليوم، ليس إلا محاولة يائسة، من جانب قيادة العدو وجيشها المهزوم، في السابع من أكتوبر 2023، لاستعادة زمام المبادرة الاستراتيجية في الميدان.
إلا أنّ ذلك، وحسب معطيات الميدان وليس موازين القوى التسليحيّة، لا يمكن أن يتحقق إطلاقاً، مهما ارتكب جيش العدو من مجازر وتدمير في قطاع غزة، وفي جبهة جنوب لبنان المساندة، وعلى الجبهة اليمنية التي جعلت اليمن العزيز في مصاف الدول العظمى، رغم استمرار العدوان الأميركي البريطاني على محافظات اليمن المختلفة.
وقد تكون المدة الزمنية، الفاصلة بين فقدان جيش الاحتلال، ومن خلفه العدو الأميركي الغربي، لزمام المبادرة بصورة نهائية، هي المدة اللازمة لدخول قوات حلف المقاومة عاصمة فلسطين، القدس، أقصر من المدة، التي استغرقها زحف الجيوش السوفياتيّة للوصول الى برلين.
وليس ذلك على الله بعزيز.
بعدنا طيّبين. قولوا الله…

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى