العالم يغلي… متى الانفجار؟
أحمد بهجة*
لم يعد ممكناً استمرار هذا النظام العالمي على ما هو عليه. صار لزاماً تغييره بشكل جذري. الأسباب عديدة، أوّلها أنّ النظام العالمي يجب أن يعكس موازين القوى القائمة على الساحة الدولية، وهذه الموازين اختلفت اليوم عما كانت عليه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين شكّل المنتصرون في تلك الحرب النظام العالمي بقيادتهم، وأعطوا لأنفسهم ما يسمّى «حق النقض الفيتو» في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بما يعني أنّ القانون الدولي يُطبَّق فقط في الحالات التي ترضي المنتصرين.
لكن سرعان ما انقسم المنتصرون إلى محورين… محور يضمّ الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ومَن معهم من دول العالم الذي يسمّونه «حراً وديمقراطياً»، ومحور يضمّ الاتحاد السوفياتي والصين ومَن معهما من الدول التي تنتمي بغالبيتها إلى العالم الثالث.
وبعد وقت قصير نسبياً ولدت حركة عدم الانحياز بجهود مباشرة من قادة دول عديدة أبرزها مصر جمال عبد الناصر والهند جواهر لال نهرو ويوغسلافيا جوزف بروز تيتو وأندونيسيا أحمد سوكارنو…
ولادة هذه الحركة في الأساس كان بهدف إيجاد كتلة معيّنة خارج الاصطفاف الحادّ بين المحورين المذكورين آنفاً، وخلق بعض التوازن في العلاقات الدولية، لكن حركة عدم الانحياز وجدت نفسها أقرب إلى روسيا والصين منها إلى المحور الآخر، وذلك بفعل التطورات العالمية والأحداث المتسارعة في أربع جهات الأرض، حيث استمرّ محور الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو) بسياساته الاستعمارية التي لا تقيم وزناً لكلّ ما يُسمّى قوانين وأعرافاً دولية.
وفي ما يخصنا نحن في هذا الجانب من العالم، فقد وقع علينا عبء ثقيل وظلم كبير تمثل باستخدام الأمم المتحدة ودولها العظمى والكبرى لإصدار القرار الدولي رقم 181 الذي قضى بتقسيم أرض فلسطين التاريخية إلى جزأين، الأول تنشأ عليه دولة فلسطينية، والثاني يتمّ تخصيصه لتجميع شتات اليهود في أنحاء العالم.
أقيم الكيان «الإسرائيلي» عام 1948 على العدوان والجرائم والمجازر، فيما لم تنشأ الدولة الفلسطينية حتى اليوم، بل جرى تهجير الفلسطينيين من أرضهم، ثم بعد أقلّ من عشرين سنة، عام 1967، توسّع الكيان الغاصب واحتلّ كلّ فلسطين التاريخية إضافة إلى أجزاء غير قليلة من الأراضي المصرية والسورية والأردنية واللبنانية، لتأتي حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 وتعيد بعض سيناء والجولان، ولكن الانتصار لم يكتمل لأنّ وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر الذي فشل مع الرئيس السوري حافظ الأسد، استطاع سحب البساط من تحت أقدام الرئيس المصري أنور السادات وأخذه في اتجاه آخر أوْصله إلى أن يزور القدس المحتلة عام 1977 ويلقي خطاباً أمام الكنيست الإسرائيلي، ثم توقيع اتفاقات كامب ديفيد التي أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي ـ الإسرائيلي،
بعد ذلك اجتاح العدو «الإسرائيلي» لبنان عام 1978 ثم عام 1982 حيث وصل إلى العاصمة بيروت اعتقاداً من قادة الكيان آنذاك (بيغن وشارون وشامير وغيرهم) أنّ الطريق أصبح مفتوحاً لتنفيذ مشروع «إسرائيل الكبرى».
لكن التاريخ لا يسير على إيقاع واحد، ففي موازاة خروج مصر من دائرة الصراع دخلته إيران من أوسع الأبواب مع انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني في شباط 1979، وتمّ على الفور إغلاق سفارة الكيان في طهران وطرد السفير ومعاونيه وتسليم المبنى إلى منظمة التحرير الفلسطينية. كما أنّ الرئيس حافظ الأسد صاحب الرؤية الاستراتيجية الثاقبة أعلن تأييد الجمهورية الإسلامية في إيران وأقام معها تحالفاً استراتيجياً صلباً لا يزال مستمراً إلى اليوم، ومن أبرز ثماره الدعم المطلق للمقاومة في لبنان التي حققت الإنجازات الكبيرة تباعاً من تحرير بيروت والجبل وجزين وشرق صيدا وصولاً إلى التحرير الكبير عام 2000 ثم الانتصار المدوي عام 2006، وتحقيق معادلة حماية لبنان بثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة».
وفي فلسطين أيضاً استمرّت شعلة المقاومة متقدة في أيدي أبطالها الذين رفضوا كلّ مسارات التنازل والتفريط بالحقوق، وسطّر الفلسطينيون على مرّ السنوات أروع ملاحم البطولة، وقدّموا الدليل تلو الدليل على أنهم غير متنازلين عن أرضهم وحقوقهم مهما كان الثمن، ولعلّ ما تشهده غزة اليوم من صمود أسطوري في مواجهة العدو الصهيوني المجرم، بعد الإنجاز الكبير في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يشكل المثال الساطع على أنّ هذا الشعب الجبّار لن يركع ولن يستسلم، بل سيُحقق أهدافه في أقرب وقت بطرد الاحتلال من غزة وتحرير الأسرى وفك الحصار، وذلك بدعم ومساندة محور المقاومة من لبنان وسورية والعراق وصولاً إلى اليمن وإيران.
والصراع عندنا مفتوح على العالم بأسره، حيث تدعم الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا والغرب الكيان الإسرائيلي الغاصب وتمنحه التغطية السياسية وتزوّده بكلّ ما يحتاج إليه من أسلحة وذخائر لكي يستمرّ بالقتل والإجرام، وتستخدم «الفيتو في مجلس الأمن الدولي ضدّ أيّ قرار جدي لوقف إطلاق النار ووقف العدوان الصهيوني على غزة، وتحاول تغطية أفعالها هذه بمشروع قرار لوقف النار فيه ما فيه من سيئات وبنود لمصلحة العدوّ!
لكن الأمر لم يمرّ بفعل الفيتو المقابل من روسيا والصين، اللتين يمثل صعودهما على المستوى الدولي مع حلفائهما في منظمة شنغهاي ومجموعة بريكس، لا سيما الحليف الإيراني، عاملاً مؤثراً في السياسة الدولية، خاصة أنّ الصين باتت الأولى عالمياً على الصعيد الاقتصادي متجاوزة الولايات المتحدة بأشواط، وروسيا باتت الأولى عالمياً على الصعيد العسكري والأولى أوروبياً على الصعيد الاقتصادي متجاوزة ألمانيا،
ولذلك يحتدم الصراع على أكثر من ساحة دولية، وآخر إشارات هذا الصراع العمل الإرهابي الذي شهدته موسكو بالأمس، والذي أتى بعد العملية الانتخابية الناجحة جداً في روسيا وفوز الرئيس فلاديمير بوتين بولاية خامسة، مما دفع الخصوم إلى محاولة استهداف روسيا من الداخل بعدما عجزوا عن ذلك من خلال استخدام أوكرانيا أو من خلال العقوبات الاقتصادية التي تغلبت عليها روسيا بل التي انعكست سلباً على مَن فرضها وخاصة على الدول الأوروبية.
العالم بأسره يغلي بما يشبه مرحلة ما قبل استواء الطبخة، أو الانفجار، لأننا تعوّدنا أنّ النظام العالمي لا يتغيّر على البارد، بل لا بدّ من غليان شديد ودماء بدأت تسيل فعلاً في بلادنا ومنطقتنا وربما اقتضى التغيير أن تتمدّد إلى أكثر من ساحة، والأيام الآتية تحمل لنا الإجابات…