دبوس
البعد اللامادي في الحرب
يتحدث ب. ه. ليدل هارت المؤرخ العسكري الإنجليزي في كتابه «الاستراتيجية وتاريخها في العالم»، عن القائد العسكري الروماني اللامع بيليزير، الذي أمر قواته في إحدى المعارك لفتح ثغرات في الحصار المحكم الذي أحدثته لقوات العدو، بعد هزيمتها، حتى تتمكن هذه القوات المنهزمة من الفرار، ولكن قوات بيليزير المتعطشة للدماء تمرّدت على الأوامر، وقامت بالإطباق على قوات العدو تمهيداً لإبادتها، مما ترتب عليه قيام تلك القوات المحاصرة بقتال شرس ضارٍ دفاعاً عن وجودها، مما أدى في خلاصة الموقف الى إلحاق الهزيمة العسكرية الوحيدة بـ بيليزير خلال تاريخه العسكري الباهر، مما حدا به الى إطلاق مقولته الشهيرة، لماذا نصرّ بعناد على سحق عدو منهزم، فنعطيه بذلك شجاعة اليائس،
في واقع الحال، كانت تلك سقطة على مستوى الاستراتيجية العليا، وكانت أيضاً تأكيداً ملحّاً على الأهمية الفادحة للقوى الغير مرئية والغير مادية في مسألة الحرب، فلم تتساقط على القوة المحاصرة أسلحة من السماء، ولا جنود من الفضاء، لقد قام جنود بيليزير باستفزاز الطاقات المعنوية الكامنة من داخل هؤلاء المقاتلين،
مجاهد بركات منصور في غرب رام الله وإبراهيم النابلسي في نابلس لم يقاتلوا العدو بالأسلحة المكدّسة بين أيديهم، بل بتلك الكينونة الميتافيزيقية المتراكمة في داخلهم، وهي خليط من كلمة الله والمظلومية والحب الجارف للوطن ولأبناء الوطن، وتاريخ عميق من العشق بين ذاتاتهم وبين الأرض بملمسها وريحها وترابها وما فوقها وما تحتها، وبمشهدها وشجرها ووديانها وجبالها، والغيم المارق في سمائها، والخبّيزة والزيتون والتين والعنب والبرتقال والليمون والزعتر ورائحة الريحان والياسمين، هذا العشق يولد مع الأطفال ويسري في عروقهم ويتراكم في جيناتهم، ويتفاقم في قلوبهم وأفئدتهم كلما طال الفراق، واستفحلت الغربة…
هذه هي تلك الكينونة التي لا يفهمها هذا الوحش القادم من أصقاع الأرض، لا يحمل تحت إبطه إلا تكنولوجيا القتل، الناتج الحتمي وبالضرورة لذات تنضح كراهية وعدواناً ورغبةً في السرقة والاستحواذ، وكينونة شيطانية شريرة، أندريه بوفر، الخبير العسكري الفرنسي، أفرد مؤلفاً كاملاً للحديث عن الذكاء والقيم المعنوية في الحرب، أو الذات الميتافيزيقية في الحرب.
العدو يقوم باستفزاز تلك الذات فينا، سقوط مريع على مستوى الإستراتيجية العليا، ومسار لن يفضي إلّا الى الزوال الحتمي لهذا الكيان، ندعو الله ان يكثر من أمثال نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وغالانت في صفوف هذه القيادة، فكلما تكاثر أمثال هؤلاء في سدة قيادتهم، كلما عجّل الله في زوال هذا الشيء القميء المدعو «إسرائيل».
سميح التايه