ثلاثة شوارع وثلاثة شهور
ناصر قنديل
– يتفق كل مَنْ يتابع مسار الحرب التي تقودها حكومة بنيامين نتنياهو وتدعمها إدارة الرئيس جو بايدن على غزة، أن الحرب الكبرى والشاملة ليست خياراً على مستوى المنطقة بالنسبة للفاعلين الكبيرين، أميركا وإيران، واستطراداً فإن محور المقاومة الواثق من قدرته على تحمل تبعات هذه الحرب ليس مستعداً للمبادرة إليها، وكيان الاحتلال الراغب بهذه الحرب لا يستطيع خوضها دون واشنطن. وهذا يعني أن حرب الاستنزاف الدائرة الآن ترتبط في استمرارها وإيقاعها ونهايتها بالسياسة، طالما أن الميدان لن يحمل تطورات حاسمة تشير إلى عجز المشاركين في حرب الاستنزاف عن تحمل تبعاتها العسكرية، في المدى الزمني المنظور.
– السياسة هنا تعني حركة الرأي العام في ثلاثة مواقع حساسة، هي الشارع الفلسطيني ودرجة دعمه لحركة حماس وقوى المقاومة في ظل الأثمان الباهظة التي تترتب على الحرب، حيث يشكل تراجع هذا الدعم أساساً للرهان على ما يمكن أن ينتجه استمرار الحرب من تغيير يمكن أن ينتج تخفيضاً في السقوف السياسية لحماس يفتح الباب لصياغة تفاهم لا يصيب الثوابت الأميركية الإسرائيلية. وبالتوازي الشارع في كيان الاحتلال الذي يستمدّ بنتنياهو من دعمه للحرب قدرته على المضي بها ومواجهة خصومه في الداخل والتمرّد على بعض النصائح الأميركية والغربية في الخارج، وإذا أشار الخط البياني لتأييد الحرب الى تراجع واضح فإن هذا سيكون عقب أخيل الذي يصاب منه الكيان بالنقطة التي يفيض معها الكأس ويحدث بفعلها التحوّل، إما باتجاه سقوط نتنياهو أو تراجعه نحو خيارات أكثر مرونة وملاقاة للشارع. والموقع الثالث هو اتجاه الرأي العام الأميركي الذي يشكل بيضة القبان في سنة انتخابية لا يمكن خلالها المخاطرة بخسارة الأصوات، وبعدما كان الصوت الطاغي في الشارع الأميركي والديمقراطي خصوصاً هو تأييد “إسرائيل” خاصة في حال حرب، فإن وجود كتل ضاغطة لوقف الحرب هو الخاصرة الرخوة التي يمكن لها أن تحدث تحولاً لصالح اضطرار إدارة بايدن الى تمييز نفسها عن حكومة نتنياهو، وذهابها الى خطوات تجعل استمرار الحرب أشدّ صعوبة.
– بين هذه الشوارع الثلاثة يبدو الشارع الأميركي هو الأهم نظراً لكون مواصلة الحرب إسرائيلياً تحتاج الدعم الأميركي المفتوح، ونظراً لكون وقف الحرب يحتاج قرار أميركياً بوقفها. واتجاه الموقف الأميركي يؤثر في اتجاهات الشارعين الفلسطيني والإسرائيلي، وهذا يسمح بتحديد مفهوم واقعي محدد لمفهوم المدى المنظور الذي يجب أن نراقب خلالها حركة الشوارع الثلاثة، حيث يشكل شهر تموز بداية الدخول في مناخ المعركة الانتخابية بعد حسم مرشح كل من الحزبين، ويصبح المطلوب قياس حركة الشوارع الثلاثة خلال الشهور الثلاثة التي تفصلنا عن شهر تموز.
– يعتمد رسم الخط البياني عموماً، مع وجود عوامل تواصل الحركة بالاتجاه ذاته، إلى ربط نقطتين سابقتين لتشكيل خط والذهاب به الى الاتجاه المقبل لمعرفة نقطة وصول متوقعة. ونحن بالمناسبة أمام حقبتين كل واحدة من ثلاثة شهور من حرب غزة، وقد تمّت في نهاية كل منها عملية استطلاع للرأي ما يعني أن رسم الخط البياني ممكن، وان قياس النسبة والتناسب يسمح بتوقع نقطة وصوله مع نهاية الشهور الثلاثة المقبلة.
– في استطلاع رأي فلسطيني أجرته مؤسسة الدراسات السياسية المسحية في نهاية كانون الأول ومنتصف شهر آذار، ظهر ان مؤيدي ادارة حركة حماس للشأن الفلسطيني ارتفعت في قطاع غزة على وجه التحديد، من 57% إلى 62%، وأن نسبة الذين يرون أن قرار حماس بشنّ هجوم طوفان الأقصى كان صائباً بعد كل التداعيات التي نجمت عنه، قد ارتفعت في غزة أيضاً، من 57% الى 72%، وإذا استمرت العوامل التي تصنع الأحداث هي ذاتها كما يبدو، فإن نسبة الذين يؤيدون إدارة حماس سيبلغون بعد ثلاثة شهور 67% ونسبة الذين يرون أن قرارها بشن هجوم الطوفان سوف يبلغون بعد ثلاثة شهور 87%.
– في كيان الاحتلال وفقاً لاستطلاعات راي متتالية أجرتها العديد من وسائل الإعلام أهمها صحيفة معاريف، وقد حملت هذه الاستطلاعات بعد طوفان الأقصى تأييداً كاسحاً للحرب سجل 94% ليتراجع إلى 74% في نهاية كانون الأول ويصل الى 57% مع منتصف شهر آذار، بينما انخفض تأييد نتنياهو من 43% بداية الحرب إلى 38% في كانون الأول إلى 30% في منتصف شهر آذار. وهذا يعني وفق مسار الخط البياني أننا سوف نكون مع نسبة تأييد للحرب لا تتعدّى 35% بعد ثلاثة شهور، ونسبة من التأييد لنتنياهو لا تزيد عن 25% بعد ثلاثة شهور.
– في أميركا أيضاً نقع على استطلاعين مميزين، الأول لشركة هاريس وجامعة هارفارد، في نهاية شهر كانون الأول العام 2023 والثاني لمركز غالوب قبل يومين، في الأول قال 57% من الشباب إنهم يؤيدون “إسرائيل”، و90% من الذين تجاوزوا الـ 65 سنة إنهم يؤيدون “اسرائيل”. وكانت نسبة تأييد موقف إدارة بايدن برفض وقف نهائي للحرب 68%، بينما كانت نسب تأييد الرئيس بايدن نفسه لا تتعدى الـ 40%. أما في استطلاع غالوب في أواخر شهر آذار الحالي، تؤيد نسبة 55% من الأميركيين وقف الحرب، بينما تؤيد نسبة 75% من مؤيدي الحزب الديمقراطي وقف الحرب، أما نسبة تأييد الرئيس بايدن فقد تراجعت الى 34%، وهذا يعني أن استمرار العوامل ذاتها التي صنعت تغيير الرأي العام، أي مواصلة الحرب بكل ما فيها، سوف ينقل مؤيدي الحرب الى الـ 40%، وداخل الحزب الديمقراطي إلى 10% وسوف يجعل مؤيدي الرئيس بايدن يتراجعون إلى 25%.
– الخلاصة هي أن فعل استمرار الحرب سوف يضغط على كل من الرئيس بايدن، وبنيامين نتنياهو نحو الخروج من الحرب، وسوف يمنح قيادة المقاومة التي تمثلها حركة حماس في التفاوض ومواجهة أخطر حلقات الحرب ضراوة قدرة صمود وثبات.