محور المقاومة ومنطقة غرب آسيا يكتبان نهاية عصر الأحادية والهيمنة*
ناصر قنديل**
مقدمة
خلال العقود الثلاثة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي وظهور القطبية الأحادية ومشروع الهيمنة الأميركيّة على العالم، كانت منطقة غرب آسيا هي المسرح الرئيسي لحروب السيطرة الأميركيّة. وإذا كانت العشرية الأولى من مرحلة ما بعد الحرب الباردة كرّست لبسط الهيمنة الأميركيّة على المسرح الأوروبي، وكانت حرب يوغوسلافيا الحدث الأبرز فيها، فإن العشرية الثانية والعشرية الثالثة، للسيطرة على غرب آسيا، سواء عبر حربي العراق وأفغانستان وما تلاهما من حروب مع قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، أو من خلال إطلاق ما عرف بالربيع العربي الذي هدف لتعميم الفوضى وضرب فكرة الدولة الوطنية وتعميم الإرهاب، والاستثمار على الفتن الأهلية والمذهبية؛ وفيما كانت الحروب البديلة لحرب فلسطين تشتعل من مشرق العرب إلى المغرب، بأموالهم وفتاويهم وشبابهم، وتقتل الملايين منهم بلا طائل، كانت مشاريع التطبيع بين العرب وكيان الاحتلال تتقدّم، والأعلام الإسرائيليّة ترتفع في عواصم العرب تباعًا، والقضية الفلسطينية تتراجع إلى المقعد الخلفيّ من اهتمام الحكومات، والنخب والشعوب أيضًا، مع سيادة شعار بلدي أولًا، من مصر أولا ولبنان أولا والعراق اولا والكويت أولا والأردن أولا والمغرب أولا، والقصد ليس ذلك أبدًا بل القصد هو فلسطين آخرا، بحيث يختصر المشهد وفق الرؤية الأميركيّة، بمزيد من الحروب العربية العربية ومزيد من الخضوع العربي لـ”إسرائيل” ومزيد من التهميش العربي لفلسطين.
نجح محور المقاومة بالصمود الفكري والسياسي والعسكري أمام هذا الهجوم المتعدّد الجبهات، وتمكن من إحباط حلقاته، فانتهت الحروب الأميركيّة والإسرائيليّة بالفشل باعتراف مَن قام بشنها، وفشلت مشاريع الحروب الأهلية والفتن في تحقيق أهدافها، في نسختها الأشدّ خطورة التي مثلتها الحرب على سورية، كما فشلت مشاريع التطبيع وتهميش القضية الفلسطينية في بلوغ حلقتي النهاية الخطيرة المرتجاة، التطبيع الإسرائيليّ السعودي من جهة، والتوقيع الفلسطيني الشرعي على التنازل عن القدس من جهة أخرى.
بنتيجة هذه المواجهات التي خاضها محور المقاومة، والمثابرة على بناء القدرات والاستعداد للحرب المقبلة، تحقق للمحور استرداد زمام المبادرة وكانت معركة سيف القدس (2021) أول الغيث، وتلتها معركة وحدة الساحات (2022) وثأر الأحرار (2023) لتظهر موازين قوى جديدة تحكم معادلات القوة بين محور المقاومة وكيان الاحتلال، ومن خلفه أميركا والغرب بكل ما لديهما من مصادر قوة واقتدار.
المشهد الدولي
خلال العقود الثلاثة (1990 – 2020) كانت أميركا ومن خلفها الغرب عنوانًا لحروب استنزفت مقدراتها، وانتهت بالفشل، وشغلت سياساتها، واستقطبت نخبها، فغفل الغرب وعلى رأسه أميركا عما كان يجري من نهوض وتقدم اقتصاديّ وعسكري وسياسي في المسرحين الروسيّ والصينيّ. وكانت المدة كافية لتمتلك الصين ما يكفي لدخول ساحة المنافسة على الموقع الاقتصاديّ الأول في العالم، وقد حققت مكانة الشريك التجاري الأول لكل دول العالم بما فيها أميركا نفسها، وكي تتمكن روسيا من الاستثمار على ما أظهرته الهزائم الأميركيّة والإسرائيليّة من وجود فرصة للنهوض عسكريًا. وكانت تجربة التموضع العسكريّ الروسيّ في حرب سورية إلى جانب محور المقاومة، فرصة للتيقن من حجم الوهن الذي تعانيه أميركا، والتحقق من دخولها مرحلة الشيخوخة، وتبدأ هجومها الاستراتيجي بتصحيح تشوهات ما بعد الحرب الباردة، وتوسع حلف الناتو في الجوار الأوروبي، وتشن حربها في أوكرانيا عام 2022. وجاءت أميركا المرتبكة بين شعاري أميركا العظمى وأميركا العظيمة، أي أميركا اولا او أميركا سيدة العالم، في تناوب الحكم بين باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن، إلى السباق مع روسيا والصين متأخرة. والارتباك الأخطر هو بين أوهام تجميد الأوضاع في غرب آسيا للتفرّغ للتنافس مع روسيا والصين، أو خوض الحروب كلها معًا، أو الرهان على الفوز بحروب غرب آسيا للفوز بها، على قاعدة ان الفوز بالسباق مع روسيا والصين مستحيل، او ان ما يحسم السباق هو من يفوز بغرب آسيا، وأميركا لم تزل عالقة في هذه المفاضلات، بعض من هذه وبعض من تلك، في مياومة تفتقد للرؤية الاستراتيجية، ومقدرات لا تكفي لتلبية متطلبات التوجهات المتعاكسة للخيارات. بينما روسيا ترسم خريطة طريقها العسكري وتتقدم، والصين ترسم خطة نهوضها الاقتصاديّ وتتقدم، ومحور المقاومة يستعد لحربه المقبلة.
كانت الضوابط التي تحكم الحركة الأميركيّة كفيلة بالحكم عليها بالفشل وهي تتحرك بين سقوف يصعب تجاوزها:
– تهدئة غرب آسيا تحتاج إلى تسوية استراتيجية مع إيران ومن خلفها محور المقاومة. وهذه التسوية بحدها الأدنى المتمثمل بالانسحاب من العراق وسورية تعني تعزيز ميزان قوى راجح لصالح محور المقاومة، وتستدعي بحدها الأعلى تسليمًا بمعادلة فلسطينية على حساب مكانة “إسرائيل” وقوتها، وهي تعتبر كل تراجع في وضع “إسرائيل” تراجعًا لها.
– ردع روسيا عن مواصلة حرب الاستنزاف القاتلة ضد أوكرانيا يحتاج إلى ما هو أكثر من حزمة العقوبات التي سقط بفشلها بإسقاط روسيا السلاح الاستراتيجي الذي تمثله العقوبات مع تراجع الرهان على القدرة العسكرية الأميركيّة، كما قال الانسحاب من أفغانستان، خصوصًا ان روسيا سجلت خلال عامين من العقوبات الشديدة والشاملة قفزة في حجم اقتصادها وانتقلت من دولة في آخر سلم الدول الصناعية إلى الدولة الأوروبية الأولى، بناتج اجمالي فوق الـ 5 تريليونات يتفوق على ألمانيا ويريحها من المرتبة الخامسة، وينافس اليابان على المرتبة الرابعة عالميّا. بينما على الصعيد العسكري تقدمت روسيا بثقة وجدارة نحو المكانة الأولى، سواء في مجال الحرب التقليدية حيث حلف الناتو في المواجهة في حرب أوكرانيا بكل تقنياته وسلاحه وذخائره، او في المجال النووي حيث الصواريخ الروسيّة تسبق الغربية مجتمعة كمًّا ونوعًا بأجيال وتزيدها بأضعاف، وقد باتت هزيمة أوكرانيا مسألة وقت، كما يقول أمين عام حلف الناتو.
– المنافسة مع الصين اقتصاديّا تستدعي التحرر من الارتهان لها استهلاكيا، وتحسين الوضع المعيشي الأميركيّ يستدعي تحرير المستهلك من الضغوط الآتية بقوة السياسة مثل العقوبات على السلع الصينيّة أو تقييد سلاسل التوريد المرتبطة بالصين، واسترداد الشركات الأميركيّة من التصنيع في الصين يستدعي أجورًا منخفضة والاستثمار في تحسين الأحوال المعيشية يستدعي رفع الأجور. ومثلما ثبت أن روسيا أقدر على تحمل القطيعة مع الغرب من الغرب نفسه، فإن الحال مع الصين أشدّ قسوة.
– لم تنجح أميركا بالتحرّر من عبء الإنفاق العسكري وهي متورّطة بحروب عالية الكلفة في زمن الخصخصة، أهمها حرب أوكرانيا التي استهلكت كل مخزون الذخائر الغربيّة، وكان هذا التحرّر شرطا للنهوض الاقتصاديّ التقني والاستهلاك والاستثمار في البنية التحتية والعمران الداخلي، ولا نجحت بالمقابل بتخديم الحروب بطريقة تتيح الفوز بها، فقد فعلت أبرز ركائز العولمة فعلها في تدمير القدرة القتالية للجيوش الأميركيّة، وبفعل ثقافة الرفاه والفردية باتت الجيوش بلا روح قتالية وبات المجتمع عاجزًا عن بذل الدماء، وبفعل الخصخصة باتت الحرب أعلى كلفة بأضعاف ولم تعُد مخزونات السلاح والذخائر آمنة ولا متاحة غبّ الطلب، فالمعيارُ هو الربح وليس الأمن القومي.
– في المواجهة مع إيران ومحور المقاومة حول غرب آسيا، كانت أميركا أمام طرف عالي الذكاء والحكمة والحنكة، شديد العقائدية والانضباط والجدية والمثابرة والقسوة من جهة موازية، وبالنسبة ذاتها، وكانت استراتيجية الربح بالنقاط ومراكمة الانتصارات الصغيرة، تنجح في تفعيل المكانة المعنوية للمحور، وفرض التراجع البطيء والناعم على الأميركيّ، ونجح ذلك وفتح الباب لإعادة فك وتركيب المشهد السياسي في غرب آسيا خصوصا بالنسبة إلى الحليفين الكبيرين لأميركا تركيا والسعودية، اللذين انتقلا من الانضباط بالسياسات الأميركيّة وخوض حروب الوكالة لحسابها، إلى التموضع في منطقة انتقائية تأخذ المصالح وموازين القوى بالحساب. وهما يوما بعد يوم اقرب إلى ربط النزاع وتشبيك المصالح مع إيران ومحور المقاومة.
طوفان الأقصى
في السياق التصاعدي الذي أعقب معركة سيف القدس وإعلان ولادة محور المقاومة، كان واضحا حجم الإدراك لدى قادة المحور بأن حضور فلسطين يفتح الباب لتعافي حال الأمة وتراجع الفتن والحروب البديلة. فهكذا كانت مصالحة حماس وسورية ضرورة للتحرر من بقايا مراحل الفتن. وقبل أكثر من سنة من الطوفان صرّح قادة حماس عن التحضير لعمل عسكري استراتيجي كبير، وقال يحيى السنوار إنه عمل يتم التحضير له بالتشاور والشراكة مع الحلفاء في محور المقاومة، بهدف إنهاء ملف الأسرى وفك الحصار وضمان أمن المسجد الأقصى. ومنذ سنة وأكثر والمقاومة في لبنان تتحدّث عن استحالة ترك فلسطين وأقصاها وحدهما. وقائد هذه المقاومة تحدث مرارًا عن معادلة الحرب الإقليمية، وخلال شهور والكلام واضح عن أن محور المقاومة في طريقه إلى حرب فاصلة مع الكيان يستعدّ لها ويحضّر لخوضها. وقد راكم لها سلاحًا وذخائر ومقدرات، وأعدّ لها خططًا وقادة ومقاتلين ومناورات. وإن أي حدث كبير قد يتحول إلى مناسبة لانطلاقها، وبالأمس تحدّث قائد الجهاد الإسلاميّ فبشّر بزمن فلسطيني جديد عنوانه التحرير وحماية المقدسات.
– ما جرى في فلسطين من خلال طوفان الأقصى بقيادة حركة حماس وقوات القسام، تاريخي وكبير، فما ظهر من إعداد وتحضير وجهوزية ونوعية قتالية يعني أن جيشًا عربيًا ثانيًا للمقاومة ولد إلى جانب ما يمثله جيش المقاومة اللبنانية، يستطيع كل منهما منفردًا حمل أعباء حرب كاملة بوجه جيش الاحتلال، وظهر جيش الاحتلال عاجزًا منهكًا هزيلًا مفككًا سهل المنال، مصابًا في روحه إلى حد تعجز الإمكانات والتقنيات عن ستر عوراته ونقاط ضعفه، ويعجز الكلام العالي الأسقف ولغة الغطرسة والغرور عن منحه أسباب القوة. وبدت الإنجازات القابلة للتحقق أكبر من التوقعات، بحجم الأضرار التي أصابت الكيان، وحجم المكاسب التي حققتها المقاومة. وفجأة وجدت المنطقة نفسها في قلب تحوّل استراتيجيّ، عنوانه سقوط كيان الاحتلال كلاعب إقليمي ينتظر التطبيع معه بصفته مَن يضمن الأمن في المنطقة، أو الشريك المنشود في النهوض الاقتصاديّ، وعنوانه الآخر صعود المقاومة كلاعب إقليميّ قادر على فرض معادلات جديدة، يستحيل دون أخذه بالحساب، وأخذ القضية الفلسطينية من خلاله في الاعتبار، الحديث عن استقرار في المنطقة.
– ما حدث كان مبهرًا ومفاجئًا وأقرب للإعجاز، لكنه جزء من خطة كانت المقاومة في فلسطين، ويكفي ما كتبه توماس فريدمان لمعرفة أين أخذتنا العملية المبهرة والنوعية والتاريخية للمقاومة، حيث ينقل فرديمان ويتبنّى كلام المحلل الإسرائيليّ ناحوم بارنيا بأن ما جرى حرب كارثية على الكيان تتفوّق بنتائجها الكارثية عن حرب تشرين عام 1973، وأنه يصعب أن يخرج الكيان من نتائج هذه الكارثة التي يصعب محوها. ويضيف أن «المساعي الأميركيّة للتطبيع السعودي الإسرائيليّ قد أصيبت بنكسة يصعب القيام بعدها. يستنتج أنه يصعب بعد هذه الحرب والحاجة لحماية الكيان أن تقوم أميركا بتوفير مستلزمات الحربين، حرب «إسرائيل» وحرب أوكرانيا».
المقارنة مع حرب 1973
باستثناء سورية التي وقفت في قلب حرب تشرين 1973 وبقيت في قلبها بعد انسحاب مصر منها بموجب فصل القوات في الكيلو 101، وتقف اليوم في قلب حرب 7 تشرين 2023 بعد خمسين سنة. تتقابل الحربان خلال نصف قرن شهد الكثير من التحولات، حيث الأولى حرب 1973 هي عمليًا حرب كل العرب بجيوشهم وحكوماتهم ونفطهم. والثانية حرب 2023 هي حرب ينكر العرب حكومات وجيوشًا ونفطًا أبوتها وأمومتها ويتركونها يتيمة، ويتآمرون عليها في السر، ولولا إحراج مذبحة غزة المفتوحة وحجم الوحشية التي يبديها جيش الاحتلال في الحرب، لما ترددت بعض الحكومات في التقدم خطوة إلى الأمام في موقفها القائم على التطبيع مع كيان الاحتلال، نحو الإعلان عن مساندة كيان الاحتلال في هذه الحرب. وهي بدأت بفعل ذلك في الأيام الأولى، قبل أن تضطر للتراجع تحت ضغط فضائح المجازر وانفجار الرأي العام العالمي ضد حكومة الاحتلال وجيشه.
– الخواصر العربية الرخوة هي التي تخوض حرب 2023، مقابل البنى العربية الصلبة في 1973، وهي حرب فعلت الكثير الذي يجب أن يُحفظ ويُكتب ويبقى موضع افتخار لرد الاعتبار لقدرة العربي، دولة وحكمًا وجيشًا وشعبًا على المبادرة واتخاذ قرار حرب والفوز بها، لكن هذا لا يجب أن يمنع القراءة المقارنة بينها وبين حرب 2023. وفي حرب 1973 جنّد العرب كل شيء وانخرطوا بكل ما عندهم، من مال ورجال وسلاح وإعلام ومعنويات وأمن ومجتمع، ورغم الانتصارات الباهرة التي حققوها في اليوم الأول، نجح جيش الاحتلال في اليوم الثالث باحتواء الهجوم، وإحداث اختراقات مهمة على الجبهتين المصرية والسورية، مع وصول الإمداد الأميركيّ المفتوح، وقصف العمق المصري والسوري. بينما نحن هنا في حرب 2023، أمام حرب لم تكلّف العرب قرشًا واحدًا، ولا بندقية ولا طلقة ولا دبابة ولا طائرة ولا صاروخًا، ولم تتعرّض خلالها عاصمة عربية لغارة أو قذيفة، ولا تشارك الجيوش والشعوب العربية بتحمل ضريبة الدم والخسائر البشرية. فقد تحملت إيران عبء التمويل، وتقاسمت مع سورية مسؤولية التسليح والذخائر، وبنت المقاومات مؤسسات صناعيّة ساهمت بتأمين الكثير من الذخائر والأسلحة أيضًا، وتقاسمت تشكيلات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن مسؤولية إطلاق النار، وتوزع عبء الدماء بين المقاومين أو الجنود في الحرب بين جبهتي فلسطين ولبنان ولحق العراق واليمن نصيب من دماء زكية بذلت لأجل فلسطين،. وكان العبء الأكبر للدماء والخسائر البشرية على فلسطين، وغزة بصورة خاصة، ورغم ذلك لم ينجح جيش الاحتلال في التقاط أنفاسه، وبقي بين فكي كماشة مفتوحتين من الشمال والجنوب، يضغط على عنقه أكثر فأكثر، والعواصم العربية بعيدة عن خطر النار، ومجموع الخسائر العربية الذي تتحمّله غزة، لا يزال أقل من خسائر حرب 1973 وخسائر الاحتلال أكبر من خسائره في حرب 1973، وعمقه تحت النار، ومستوطنوه مهجَّرون، واقتصاده مشلول، وصورته سوداء، والعالم ينقلب ضدّه، وجيشه لا يجد فرصة نصر واحدة، لصورة تذكارية واحدة.
– تمتاز حرب 2023 بأن الثقة بين المشاركين فيها لا تشوبها شائبة، وخطر الخيانات فيها معدوم، واحتمال الانفراد صفر، ذلك أن درجة التماهي في تحديد الرؤى الاستراتيجية والأهداف التكتيكية وتحديد كيفية إدارة الحرب ومرجعياتها، لا لبس فيها ولا اشتباه حولها، بعكس حرب 1973 التي انفرط عقد الشراكة في خوضها منذ اليوم الثالث، وبدأت الاتصالات المصرية السعودية الأميركيّة لترتيب وقف النار، وإنهاء استخدام سلاح النفط، وتركت سورية وحيدة في حرب الاستنزاف حتى حزيران 1974؛ بينما الذي يجري في حرب 2023 أنه كلما مرّ المزيد من الوقت تصلّب عود المقاومة في فلسطين، وزاد منسوب شراكة جبهات لبنان واليمن والعراق، وبينما كان التدخل الأميركيّ عام 1973 فائض قوة قادر على الإخلال بميزان القوى، فشل الأميركيّ في حرب 2023 بممارسة الردع، واضطر للتراجع طلبًا لأمن قواعده العسكرية التي صارت تحت النار، وكان الفشل الأميركيّ الأعظم في حرب البحر الأحمر ومواجهة التحدي اليمني.
– في عمق المدى الجغرافي للتهديد العسكري بين الحربين، يسهل التعرف على حقيقة صادمة، وهي أن حرب 1973 كانت تدور خارج فلسطين، والتهديد الإسرائيليّ بقي قائمًا تجاه العمق العربي، خصوصًا في سورية ومصر؛ بينما في حرب 2023، فكل فلسطين التاريخية، بما فيها الأراضي المحتلة عام 1948، تل أبيب وحيفا وبئر السبع وإيلات، ومستوطنات الشمال والجنوب تحت النار الحقيقية. ويكفي أن نعلم أن مدى التوغل البري الذي تحقق في طوفان الأقصى في غلاف غزة هو 40 كلم، بينما لم يتجاوز التوغل في الأراضي السورية والمصرية المحتلة الـ 20 كلم في حرب 1973، علمًا أن توغل 2023 تم في قلب مستوطنات مأهولة، بينما توغل 1973 جرى في أراضٍ بلا سكان وإن وجدوا، فهم من العرب.
– تستحق حرب فلسطين 2023، أو حرب الطوفان، أو حرب 7 تشرين، وهي لا تزال مستمرة أن تعامل بصفتها أهم حروب العرب، وأقلها تكلفة على حكوماتهم وشعوبهم، ولذلك فهي تستحق منهم، شعوبًا على الأقل أن يسدّدوا بعضًا من ثمن ما تمنحهم إياه من فخر وكرامة، بما هو أكثر مما تفعله شعوب العالم من إبداء التضامن والدعوة لوقف العدوان.
-هذه رابع الحروب العربية الإسرائيليّة بعد حروب 1948 و1967 و1973، وهي الحروب التي شملت عدة جبهات عربيّة. وكما هو معلوم انتهت حرب 48 بخسارة عربية ضاعت معها الأراضي المحتلة عام 48. وانتهت حرب 67 بخسارة أكبر منها وضاعت معها أراضٍ عربية جديدة. وانتهت حرب 1973 بانتصار معنويّ صنعته البدايات التي رافقت الحرب بإنجازاتها وإثبات القدرة على خوض حرب، لكنها انتهت بخسارة سياسيّة تمثّلت بتفكك جبهة الحرب العربية وانخراط مصر باتفاقيات كامب ديفيد. وكان النصر العسكري قد تبدّد مع تفكّك جبهة الحرب العربية وجسر الدعم الأميركيّ المفتوح.
– في الحرب العربية الإسرائيليّة الرابعة، بادر العرب كما في حرب 73، ولكن على جبهة واحدة هي جبهة غلاف غزة وكان النصر عظيمًا، لكن جبهات الحرب العربية من فلسطين، غزة والضفة، إلى لبنان والعراق واليمن، بمساندة وسورية وإيران، كانت متماسكة ونجحت بالتفوّق على مشاريع التفرّقة ومحاولات الإيقاع والتبعيض والمزايدة والتنقيص. وفشلت الحملة العسكرية للاحتلال في تحقيق أهدافها بوقف صواريخ المقاومة واستعادة الأسرى بالقوة دون تبادل، وفشل الردع الأميركيّ سواء في لبنان أو العراق أو اليمن، حيث قامت المقاومة بتحدّي خطوطه الحمراء وفرضت إرادتها، ولم يفلح الاستنفار الغربي والأميركيّ خصوصًا معنويًا وماديًا بتوفير شروط النصر للاحتلال.
– تثبت المقاومات العربية أن يدها هي العليا، وأنّها جاهزة للمنازلة، والعرب هذه المرّة لا يقاتلون بجيوشهم التقليدية، بل بجيوش حديثة عصرية أعدوها لهذه الحرب، هي المقاومات العربية، التي أعدّت بهدوء ومثابرة فائض القوة اللازم للحرب، ولم تستدرجها الاستفزازات والمزايدات لإظهار كل ما لديها، ونجحت بالاستثمار على القيمة المضافة للمظلومية الفلسطينية باستنهاض الشارع العربي بعدما تعافى من عقدة المذهبيّة، والرأي العام العالمي بعدما تعافى من عقدة الهولوكوست. فانتقلت المعركة السياسية إلى مناطق الأمن الاستراتيجي الأميركيّ، استقرار الدول المحيطة بفلسطين، وضمان الملاحة الدولية، وضمان تدفق النفط عبر الممرات المائية، والحفاظ على مشروعيّة الحرب في ظل رأي عام ثائر ضدها بقوة. وبينما استنفدت «إسرائيل» فائض قوتها، لا يزال فائض قوة المقاومة في غالبه خارج الحرب، وبينما تعاظمت القيمة المضافة للجيش العربي الجديد بالحضور الكاسح لفلسطين عربيًا وعالميًا، فقد الأميركيّ والإسرائيليّ القيمة المضافة لحربهم بسقوط سرديّة ربط حرب فلسطين بالحرب على الإرهاب.
الطوفان وصياغة المعادلات عالميًّا وإقليميًّا
خاضت القوات الأميركيّة خلال القرن الحادي والعشرين حروبًا في كل من أفغانستان والعراق، ونشرت قوات تدخل في سورية تحت شعار مواجهة الإرهاب الذي مثّله صعود تنظيم داعش. وواجهت القوات الأميركيّة في هذه الساحات حروب مقاومة شعبية عبرت عن رفض شعوب وقوى هذه البلدان لاحتلالها، وانتهى احتلال أفغانستان بإعلان الانسحاب الأميركيّ بعد عشرين سنة، بالتسليم بالفشل؛ بينما يدور النقاش حول كيفية التعامل الأميركيّ مع المقاومة في سورية والعراق، على خلفية ارتباط هذه المقاومة والاحتلال الأميركيّ بموازين القوى المحيطة بأمن كيان الاحتلال وتداعيات الحرب الإسرائيليّة على غزة، لكن التحدّي الذي تواجهه القوات الأميركيّة في البحر الأحمر يبدو مختلفًا على كل المستويات.
من الزاوية الاستراتيجية تصنف الحالة التي تواجهها القوات الأميركيّة في البحر الأحمر، بمواجهة نظاميّة بين جيشين متقابلين، يفترض أن لا يستطيع خوضها بوجه القوات الأميركيّة الا جيش دولة عظمى، حيث لا توجد قوات أميركيّة تحتل أراضي يمنية وتواجه حرب مقاومة شعبية، بل ثمة مواجهة تدور بين الأساطيل الأميركيّة ووحدات الصواريخ والطائرات المسيّرة اليمنية ساحتها البحر الأحمر. وخلال شهور تفشل القوات الأميركيّة في إسكات مصادر النيران اليمنيّة. وتستمر الصواريخ والمسيرات اليمنية باستهداف السفن في البحر الأحمر، وتتعرض السفن الحربية الأميركيّة لبعض من هذه النيران.
من الزاوية الاستراتيجية هذا التحدي النوعي يجعل من اليمن دولة عظمى، أو من الجيش الأميركيّ جيش دولة عالم ثالث. فالمواجهة الدائرة على مستويات الاستخبارات والتقنيات والنيران، تقول بأن اليمن نجح بتحقيق التوازن مع القوات الأميركيّة، وأدخلها في حرب استنزاف، حيث كل من الجيشين اليمني والأميركيّ يستهدف الآخر. ووفق معايير الجيوش النظامية، ينجح الجيش اليمني باحتواء الضربات الأميركيّة والعودة بعد كل ضربة إلى استئناف إطلاق النار كأن شيئًا لم يكن، فلا يتحقق الردع خشية مخاطر المواجهة، ولا تحقق المواجهة ذاتها ما يتسبّب بإضعاف قدرة الجيش اليمني على إطلاق النيران. وتبدو القدرات الاستخبارية والتقنية والنارية للجيش اليمني موازية لما يملكه الجيش الأميركيّ، أو ما يستخدمه في هذه المواجهة على الأقل، طالما أن الأمور تُحسَب بنتائجها.
القضيّة هنا لا تتصل بالمعنويات، لأن لا مواجهة برية بين الطرفين، بل تبادل للنار عن بُعد. وفي هذا التبادل، ثلاثة عناصر، المعلومات والتقنيات والطاقة النارية، وفي حرب تقليدية بحريّة يبدو اليمن وأميركا على طرفي معادلة توازن معيارها الاستمرار بالوتيرة ذاتها خلال أكثر من شهر، يقول الأميركيّون في كل مرة إنهم يكتشفون خلال المواجهة أن اليمنيين أدخلوا عنصرًا جديدًا إلى ميدان الحرب، ويتحدّثون مرة عن صواريخ بالستية مطوّرة يجري استخدامها في المواجهة البحرية، ومرة أخرى عن غواصات مجهّزة لهذا النوع من المواجهة، ويعترفون بامتلاك اليمن معلومات كافية عن حركة السفن التجارية والحربية وكيفية استهدافها. وتثبت المواجهة قدرة اليمن على تنظيم الحركة والنار بما ينجح بتفادي الاستهدافات الأميركيّة.
خلال مرات عديدة نجح اليمن كجيش نظامي، بفرض إرادته على السفن التجارية التي حظيت بحماية السفن الحربية الأميركيّة، وأجبرها على تغيير وجهتها بعدما حاولت البحرية الأميركيّة مواكبتها لتمكينها من العبور بعكس الإجراءات والتعليمات اليمنية. وهذا يعني على المستوى الاعتباري والمعنوي إلحاق الأذى بمكانة البحرية الأميركيّة وسمعتها وقدرة الردع الأميركيّة، بحيث لا يمكن النظر لنتائج المواجهة الدائرة خارج إطار فشل قدرة الردع الأميركيّة من الزاوية الاستراتيجية.
خلال عام ونصف كان الأميركيّون يقولون إن المواجهة الروسيّة الأوكرانية غير المتماثلة أظهرت أن الجيش الأوكراني أسقط قدرة الردع الروسيّة، واليوم يمكن القول ببساطة إن المواجهة بين الجيش الأميركيّ والجيش اليمني أسقطت قدرة الردع الأميركيّة.
إشكاليات استراتيجية كبرى
– وفقًا لمفهوم قياس القدرة الاستراتيجية للدول والكيانات والقوى بمعيار العلاقة بين فائض القوة والقيمة المضافة، فإن ما جرى في طوفان الأقصى هو أن المقاومة التي تمتلك قيمة مضافة لا جدال في حيويّتها وتفوقها، تمثلها مظلومية الشعب الفلسطيني جمعت ما يكفي من فائض القوة لإسقاط جدار التفوق الإسرائيليّ ونثر حجارته في الهواء، بحيث إن كيان الاحتلال الذي كان يستند إلى جداره المتين من فائض القوة لصناعة قيمة مضافة اسمها التطبيع مع السعوديّة من بوابة مواجهة «الخطر الإيراني المشترك»، وجد نفسه أسير معادلة فقد خلالها فائض القوة وباتت القيمة المضافة المفترضة التي يمثلها التطبيع مع السعودية رهن حلّ القضية الفلسطينية، بعدما كانت مدخلًا لتجاوزها.
– وفقًا للمفهوم ذاته، فإن كيان الاحتلال عالق بين ركني ثنائية معقدة، فكلما استثمر لكسب المزيد من النقاط في حساب القيمة المضافة، أي السمعة الجيدة والربح السياسي والتقدم في مشاريع التطبيع، وجد أن عليه التنازل عن أمجاد القوة والتخلي عن استخدام فائض القوة، وقبول التراجع في المكان والمكانة، وتقديم تنازلات في الأرض والدور. وكلما استثمر في فائض القوة لكسب المزيد من الجغرافيا وإظهار التفوق الميداني، وجد نفسه محاصرًا ببيئة دولية وإقليمية عدائية تصل حد اتهامه علنًا بالجرائم، وتهديده بالعزل. وعبثًا يسعى الكيان لإعادة الجمع التي كان قد حققها بين المزيد من فائض القوة والمزيد من القيمة المضافة، بينما على الضفة الفلسطينية يحدث العكس حيث المزيد من النجاح الفلسطيني في ميدان لعبة القوة، يزيد من فرص النجاح الفلسطيني في ميدان التفوّق الأخلاقي، وكسب المزيد من التأييد والمساندة المعنوية.
– الإشكالية الثالثة التي فرضها الطوفان وما بعد الطوفان على الصعيد الاستراتيجي، تتمثل في أنه وضع أمام الكيان تحديًا بحجم الحاجة للاختيار بين تحقيق إشباع في فائض القوة لرد الاعتبار لما خسره في يوم الطوفان. وهذا معناه سحق المقاومة والتخلص من وجودها كقوة في غزة. وهذا الربح الكامل في ميدان فائض القوة يستدعي تقبل خسارة كاملة في ميدان القيمة المضافة، أي خسارة الشارع العالمي وقدرة التحرك السياسي في الساحة العربية، التي سوف تكون قد أصيبت شعوبها بالهزيمة مع انكسار المقاومة في غزة، وفقدت معها مشاريع التطبيع نكهتها المعنوية كتعبير عن انفكاك إرادي للشعوب عن محورية القضية الفلسطينية بداعي أن الوطنية أعلى مرتبة من القومية، وصار التطبيع صك استسلام يوقعه المهزوم لحساب المنتصر. وبالتوازي فإن الربح الكامل في ميدان القوة لم يعُد ممكنًا بسبب ترابط الساحات من دون أن يمثل هزيمة شاملة لكل قوى المقاومة، ما يجبر هذه القوى على الاستعداد للذهاب بعيدًا نحو الحرب الشاملة منعًا لهذا الانكسار. وهذا يعني ان على «إسرائيل» وأميركا الذهاب إلى مرتبة أعلى من الحرب واستثمار فائض القوة لا يبدو أنهما بمستوى خوض غماره، ولا أنهما تمتلكان مقوماته، ولا يبدو أن حسابات الفوز بهذا الاختبار مضمونة.
– يجري كل ذلك في لحظة دولية غير مناسبة لأميركا والغرب، حيث تمثل الحرب الأوكرانية اختبارًا لمزاعم تمتع أميركا بفائض القوة والقيمة المضافة معًا، كما كانت مزاعم «إسرائيل» قبل الطوفان، حيث كانت واشنطن تعتقد أنها تستطيع تخديم جبهة أوكرانيا بوجه روسيا بما يكفي لاستنزاف روسيا، وهي تقول إنها تساند دولة ذات سيادة وشعبًا يتعرّض للاحتلال والعدوان بما يلزم ليدافع عن نفسه بوجه قوة طاغية، لتجد أنها بعد الطوفان عن التخديم المزدوج لحاجات «إسرائيل» وأوكرانيا معًا، وأن أولوية «إسرائيل» ستجعل أوكرانيا تخسر، وتكتشف أن شعاراتها في أوكرانيا صارت قيدًا عليها في الحالة الإسرائيليّة. وأن كل دعم لـ «إسرائيل» يتحول دعمًا لخطاب روسيا في الحرب الأوكرانية، وكل دعم للخطاب الأوكراني يصبح تصديقًا على السردية الفلسطينية. فوقعت أميركا بما وقعت فيه «إسرائيل» لجهة الاستحالة بالجمع بين أرباح فائض القوة والقيمة المضافة، من جهة، والعجز عن تخديم جبهتين معًا والربح فيهما معا. في حالة أميركا الجبهتان هما أوكرانيا و «إسرائيل»، وفي حالة «إسرائيل» الجبهتان هما الشمال مع لبنان والجنوب مع غزة.
– موقع أوروبا الجغرافي الأقرب من أميركا، يلقي الأضواء على المأزق أكثر. وموقع اليمن على الفالق البحري بين جبهتي احتلال غزة والتطبيع مع السعودية، يلقي المزيد من الأضواء على حجم المأزق الأميركيّ والأوروبي ونوعه، حيث جمع اليمن مثل غزة فائض القوة اللازم لحماية القيمة المضافة التي قرر جعلها عنوان الإمساك بمعادلة البحار، وعنوانها فرض الحصار على «إسرائيل» حتى فك الحصار عن غزة. وهذه كلها علامات إرهاصات تشكل العالم الجديد على إيقاع فلسطين، من البرازيل إلى جنوب أفريقيا ومن راشيل كوري إلى ارون بوشنل، مسار لا يبدو أن تداعياته قابلة للاحتواء بتسويات صغيرة، حتى لو بدت ممكنة، أو ظهر أنها ضرورية، فلن تكون إلا محطات في سياق سوف يكمل مساره.
– قد يكون بمستطاع أميركا أن تؤجل ظهور مشهد واضح لفشلها في أكبر وأخطر حربين متزامنتين في العالم، حرب أوكرانيا وحرب غزة، واحدة ترسم مستقبل آسيا والثانية ترسم مستقبل أوروبا. والفشل هنا يعني ببساطة أن تنتهي كل من هاتين الحربين بصيغة لا تكون لها ولا حليفها المنخرط في الحرب اليد العليا. وكل المؤشرات المحيطة بحربي أوكرانيا وغزة، تقول إن لا فرص في الأفق لتحقيق انتصار لصالح الحليفين المباشرين لأميركا، أوكرانيا و«إسرائيل”.
– أوكرانيا التي حظيت بأضخم دعم مالي وتسليحي واستخباراتي غربي يُقدَّم لدولة واحدة، منذ الحرب العالمية الثانية، دخلت في عدٍّ تنازلي لقدرتها على الصمود مع انتقال الجيش الروسيّ إلى الهجوم، ونجاحه في بدء استرداد مناطق أوكرانية حساسة من الجيش الأوكراني، بعد سنة من محاولات فاشلة لبدء هجوم أوكرانيّ معاكس يهدف للسيطرة على مناطق شرق وجنوب أوكرانيا التي دخلتها القوات الروسيّة خلال العام الأول للحرب، لتدخل الحرب سنتها الثالثة كما دخلت سنتها الأولى والحرب روسيّة. والكلام الصادر عن المسؤولين الأوكرانيين لا ينكر هذه التحولات، لكنه يتحدث عن فرص لتصحيح الموقف إذا توافرت لأوكرانيا مساهمات غربية تعادل أضعاف ما تم تقديمه حتى الآن، بينما الدول الغربية تشكك بجدوى ذلك. وبدأت ترتفع فيها الدعوات لتصفير الخسائر والتأقلم مع الهزيمة الأوكرانية، والبحث عن الثمن التفاوضي الأوكراني والأوروبي الذي تريده روسيا لوقف الحرب. ولعل ردود الأفعال الأوروبية المستنكرة لكلام الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الداعي لإرسال قوات أوروبية لمنع هزيمة أوكرانيا، تعبير عن الإقرار باستحالة منع وقوع الهزيمة الأوكرانية.
– “إسرائيل” التي زحف زعماء الغرب إليها غداة طوفان الأقصى يزايد بعضهم على بعض في حجم الدعم المقدّم لـ”إسرائيل” لبدء هجوم معاكس اعتقدوا جميعًا أن من يحجز لبلده موقعًا فيه يحجز نصيبًا لبلده من شرق أوسط جديد سوف ترسم “إسرائيل” معالمه عسكريًا بنصرها المؤكد، لكن كل شيء جرى منذ خمسة شهور يقول إن هذا النصر الإسرائيليّ صار وهمًا وسرابًا، وأن سقف ما تنشده الآن “إسرائيل” هو هزيمة غير فاقعة قابلة للتمويه. وهذا مضمون ما تفعله عبر المفاوضات، التي تعترف من خلالها بأن طريق استعادة الأسرى هو التفاوض والتبادل وليس الخيار العسكري، كما توهّمت وقالت. وتعترف ويعترف معها الغرب وعلى رأسه أميركا بأن القضاء على قوى المقاومة استحالة، وأن سقف ما يرتجى هو صيغة مموّهة لمشاركة المقاومة في حكم غزة والضفة معها، يمكن للمقاومة قبوله لتسهيل تمويل إعادة الإعمار، وتسهيل توحيد الضفة وغزة بعد انقسام دام لعقد ونصف ونيّف. وبالرغم من بقاء أميركا وحدها ترفض وقف إطلاق النار، فإن قدرة أميركا على أداء هذا الدور تتراجع وتتضاءل، مع المتغيرات الداخلية الإسرائيليّة من جهة، وتزايد ضغط الشوارع الغربية وفي مقدّمتها الشارع الأميركيّ لصالح وقف الحرب.
– أميركا في الحربين تلعب دور القائد السياسي والميداني، وحامل العبء الرئيسي ماليًا وتسليحيًا، وينكشف أمامها اختبار مثاليّ لسقف ما تستطيع فعله عبر أفضل حلفائها، وفي ذروة التعبئة الداخلية لتوفير إمدادهم بأقصى ما لديها. وهذا مثال لن يتكرر مع أي جهة ثالثة غير أوكرانيا و«إسرائيل”، وقد تمّ تحويل حربيهما كحروب للدفاع عن أميركا وأمنها القومي، وجندت للفوز بهما كل المقدرات المالية والعسكرية والدبلوماسية لواشنطن. والنهاية بالفشل فيهما تعني أن لا أمل بتحقيق النجاح في أي حرب أخرى، وأن على أميركا التسليم بموازين قوى جديدة تظهر إلى حيز الوجود، وتحمل معها قوى صاعدة لا يمكن وقف صعودها. وأن خسارة النفوذ الأحادي في الشرق الأوسط تعني ضربة كبيرة للنفوذ الأميركيّ في آسيا، وتراجع النفوذ الأميركيّ في أوكرانيا يعني تراجع هذا النفوذ في أوروبا القرن الحادي والعشرين، وأن الحلف الروسيّ الصينيّ الإيراني سوف يملأ الفراغ الناجم عن هذا التراجع الأميركيّ. والأمر لا علاقة له بجمهوري وديمقراطي بل بأميركا، والأمر لا علاقة له بالتنافس الروسيّ الأميركيّ أو الصينيّ الأميركيّ كما يروّج الأميركيّون، بل بشيخوخة أميركا وتراجع مكانتها كدولة قوية قادرة على خوض الحروب الحقيقية على غير شاشات السينما واستديوهات هوليوود. وهذا ما يقوله البحر الأحمر بصورة لا تقبل التأويل، حيث ينجح أنصار الله بعد شهرين من حرب مباشرة أميركيّة بريطانية مع اليمن بفرض مشيئتهم في البحار رغم أنف أميركا وقوة الردع الأميركيّة، لأن الحرب يربحها الذي تقاتل الأرض معه، والذي يمنحها دمه بلا تردّد
غرب آسيا ومحور فلسطين
– منذ السابع من تشرين الأول من العام الماضي تحول العالم الإسلاميّ الممتد على مساحة عابرة فوق قارتين كبيرتين هما آسيا وأفريقيا، إلى مسرح تفاعلات وتداعيات سياسية واستراتيجية قالت إن هذا العالم يشكل متحدًا سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا تشكل قضية فلسطين والمقدّسات الإسلاميّة فيها، محورًا جامعًا له رغم مرور خمسة وسبعين عامًا على ظهور هذه القضية، وبذل مساعٍ وجهود دولية سياسية وعسكرية وإعلامية وثقافية ومالية هائلة لتجاوزها وطي صفحتها، بمشاركة حكومات فاعلة في العالم الإسلاميّ.
– في قلب هذا العالم الإسلاميّ الذي يمتد على مساحة تعادل ربع مساحة اليابسة (32 مليون كلم مربع) والذي يبلغ عدد سكانه ربع عدد سكان العالم (2 مليار نسمة)، بقيت قضية التعاون والتنسيق على قشرة الخيارات الاستراتيجية للدول التي تلتقي في منظمة مؤتمر التعاون الإسلاميّ، بينما كان عصر دول عدم الانحياز فرصة لتظهير قوة العالم الإسلاميّ كجزء من منظمة دول عدم الانحياز، عندما كان جمال عبد الناصر ركنًا من أركان هذه المنظمة، وكانت قضية التحرّر الوطني على مستوى العالم في رأس جدول أعمال السياسة. ومنذ نهاية التجربة الناصرية، وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وتراجع منظمة دول عدم الانحياز وغياب قادتها المؤسسين، أصبح العالم الإسلاميّ جزءًا من منظومة السيطرة الأميركيّة على العالم.
– بدأت ملامح نهوض العالم الإسلاميّ طلبًا لدور مستقل مع تراجع القبضة الأميركيّة على العالم وصعود قطبين جديدين هما روسيا والصين، وبدا أن شعار التوجه شرقًا، كخيار بديل أو رديف للغرب يجمع الدول الفاعلة في العالم الإسلاميّ، من تركيا واندونيسيا إلى باكستان ونيجيريا والسعودية ومصر وإيران، وكان واضحًا أن الدول الساعية للعب دور رياديّ سياسيًا على هذا الصعيد هي السعودية وتركيا وإيران، بينما تنشغل الدول الكبرى الأخرى باهتمامات وهموم أخرى، حتى جاء طوفان الأقصى وبدأ يتغيّر وجه العالم، وتظهر المكانة التي حجزتها القضية الفلسطينية في الرأي العام العالميّ، واستطرادًا ما أطلقته من مناخات جديدة في الشارع الإسلاميّ.
– كما ظهرت القضية الفلسطينية ذات دور محوري في صناعة السياسة في العالم الإسلاميّ، ظهر محور المقاومة بقيادة إيران قوة محورية في رسم مسار الأحداث. ومرّت الأيام والشهور، وبدا أن روسيا والصين تكتفيان بمراقبة ما يجري، وتستثمران على عائداته التلقائية سواء في إنهاك السياسات الأميركيّة، أو في صرف الانتباه الأميركيّ عن أولوية المواجهة مع روسيا والصين. وبمعزل عن الأسباب التي تفسر هذا البرود الروسيّ والصينيّ، ولو من موقع التعاطف مع نضال الشعب الفلسطيني ومظلوميته، فإن الفراغ الاستراتيجي الدولي هنا ملأته إيران، التي استثمرت وحدها من دون سائر دول العالم الإسلاميّ، في مكانتها وأموالها وسياستها على تنمية حركات المقاومة ودعمها، معرّضة دولتها لمخاطر حروب واستهدافات وعقوبات، وحصار غربي مديد، يعرف القاصي والداني أنه اتخذ من الملف النووي الإيراني مجرد ذريعة لمعاقبة إيران على موقفها من كيان الاحتلال وإصرارها على المضي بلا تردّد في رعاية خيار المقاومة وقواها وتنميتها.
– يأتي مقال وليم بيرنز مدير وكالة المخابرات الأميركيّة المركزية، (سي آي اي)، المنشور في مجلة الفورين أفيرز، ليكرّس حقيقة صعود إيران إلى المشهد الجيواستراتيجي، كقائد لنهج المقاومة الذي نجح بتمثيل الوجدان الجمعي للعالم الإسلاميّ خلال الشهور الممتدة من الحرب الأميركيّة الإسرائيليّة على غزة. فعندما يتحدّث بيرنز عن الوقاحة الإيرانية فهو يصف الروح الهجوميّة لإيران، وعندما يقول إن مفتاح أمن «إسرائيل» والمنطقة هو التعامل مع إيران، يعلن إيران الشريك الجيوستراتيجي الذي لا مفرّ من الانخراط معه في التفاوض أو الحروب، على رسم السياسات. يقول بيرنز «إن الأزمة الحالية جعلت النظام الإيراني أكثر وقاحة، ويبدو أن إيران مستعدة للقتال حتى آخر وكلائها، بالتزامن مع تطوير برنامجها النووي ودعمها لحرب روسيا ضد أوكرانيا»، و«أنه مع بدء الحرب بين «إسرائيل» وحماس، أخذ الحوثيون المدعومون من إيران بمهاجمة خطوط الشحن التجارية الدولية، ولا يزال خطر زيادة التوترات على جبهات أخرى قويًا»، مستخلصًا «أنه على الرغم من أن أميركا ليست مسؤولة وحدها عن حل أي من المشاكل المعقدة في الشرق الأوسط، إلا أنه لا يمكن إدارة أي من هذه المشاكل، أو حلها، دون قيادة أميركيّة نشطة»، ليستنتج «أن مفتاح أمن إسرائيل والمنطقة» هو «التعامل مع إيران».
– المكافئ الاستراتيجي الحاضر لدخول المعادلة الدولية عندما تتم إعادة تشكيل المنطقة على إيقاع القضية الفلسطينية، هو إيران وليس أحد آخر، رغم محاولات تركيا حجز دور في المعادلة، وهي لم تجرؤ على قطع علاقاتها بـ«إسرائيل» تضامنًا مع غزة وأهلها، كما فعلت كولومبيا وتشيلي وبوليفيا. ورغم السعي الأميركيّ لأدوار مصرية وسعودية، وقد بقي سقف مواقفها سلبيًّا بعدم الانخراط في الحرب الأميركيّة، وإيران لا تسعى لاحتكار الدور، وتسعى لدعوة الجميع للانخراط في دعم خيار المقاومة والخروج من أوهام التطبيع مع كيان الاحتلال، لكن وحتى إشعار آخر، فإن الفراغ الاستراتيجي الذي لم تملأه روسيا والصين في مواجهة الدعم الأميركيّ لكيان الاحتلال سوف تملؤه إيران كقوة عالميّة عظمى رابعة إلى جانب أميركا وروسيا والصين مع التراجع الأوروبيّ البائن، بينما تظهر دول مثل جنوب أفريقيا والبرازيل ودول أميركا اللاتينية في موقع متقدم ضمن المعادلة الجديدة التي تصنعها مكانة فلسطين المتقدمة في الرأي العام العالمي، ليبرز محور قوة دولية رابعة عنوانها محور فلسطين، تشارك روسيا والصين المواجهة مع محور الغرب الجماعي لكنها تمنح للقيمة الأخلاقية العليا التي تمثلها فلسطينيًّا مكانة أعلى من حساب المصالح وموازين القوى، أو يجاورها.
*مؤتمر القدس الـ21 بدعوة من حركة التوافق الوطني الإسلاميّة – الكويت.
** رئيس تحرير صحيفة البناء ونائب لبناني سابق.
[email protected]/009613692692