فصل الربيع و”الربيع العربي”…
سارة طالب السهيل
فصل الربيع، وما أبدعه فصلاً من فصول السنة، ننتظره كبشر كما كلّ الكائنات لتنعَم بجمال طقسه وتفتّح زهوره ولونه الأخضر الذي يكسو وجه البسيطة، ونضرة أوراق الأشجار وسعادة الحيوانات وتألق الجبال باللباس الأخضر المورد.
وكلنا ننتظر شهر الربيع لنغادر السكون بفصل الشتاء، ونمتلئ بالحيوية والنشاط والحركة والتنزّه في الهواء الطلق، والإستمتاع بالشواطئ وأشعة الشمس الدافئة، كما كان ولا يزال فصل الربيع مصدر إلهام الشعراء ورمزاً للحياة والتفاعل مع الطبيعة.
فهو شهر اعتدال المزاج بعد عبور ظلام الليل في الشتاء وقسوة برودته، وهو موعد للأعياد في كثير من الحضارات القديمة والمعاصرة مثل عيد الرّبيع الصينيّ.
بالتأكيد ليس الجميع يعرف عن عيد الربيع في الصين، فهو قائم منذ ما قبل أربعة آلاف سنة، ويواكب أوّل يوم للشهر الأول في التّقويم الصينيّ رأس السنة الجديدة، بينما الرومان كانوا يحتفلون به يوم 25 من مارس كعيد للسنة الجديدة.
أما منطقتنا العربية والشرق أوسطية وحضاراتها القديمة فاختارت هذا الفصل للاحتفال به وجعله عيداً مهماً، مثل عيد النوروز الذي يتمّ الاحتفال به في العديد من الثقافات، بما في ذلك الثقافة الكردية في العراق. يُعتبر عيد النوروز مناسبة مهمة تحتفل بها العائلات والأصدقاء معاً. يقع في فصل الربيع ويعبّر عن بداية السنة الجديدة وتجديد الحياة.
يتضمّن احتفال النوروز في العراق العديد من الأنشطة والتقاليد المميّزة. من بين هذه التقاليد، يتمّ إشعال النيران والقفز فوقها كرمز لتطهير الروح وتجديد الحياة.
كما يعدّ عيد النوروز فرصة للتواصل والتلاحم بين الناس، وتعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية. يحتفل بهذه المناسبة في كوردستان العراق بشكل خاص في المدن الكردية مثل أربيل ودهوك والسليمانية.
واحتفل الفراعنة بعيد الربيع قبل 5 آلاف عام، تحت اسم شمّ النسيم، بزيارة المتنزهات، والسفر إلى الأرياف لقضاء اليوم في الحقول الزراعية، وتلوين البيض، وصنع ولائم من الأسماك المتنوعة.
وفي سورية ارتبط عيد الربيع بأسطورة عشتار الكاهنة المقدسة التي صارت شجرة صنوبر يتمّ تزيينها، ومحبوبها دموزين وهي القصة التي ترمز لتجديد الخصوبة مع بدء فصل الربيع، فعشتار هي الأمّ للطبيعة التي تتزيّن بكلّ أنواع الزهر.
وتحتفل الجزائر بعيد الربيع بطقوس متوارثة تحت مسمّى “ثافسوث” وهي كلمة أمازيغية الأصل تدلّ على تفتح الأزهار ونضوج ثمار الأشجار.
أما مصطلح “الربيع العربي” الذي ظهر في عالمنا العربي انطلاقاّ من عود ثقاب أشعل به البائع المتجوّل محمد البوعزيزي النار في جسده ثأراً لكرامته وحقه الضائع على أيدي السلطات المحلية بتونس واحتجازها بضاعته، ووفاته متأثراً بالحروق، لتنتقل النيران إلى دولنا العربية من بعد وتمزّق وتفتّت ممن كانوا من ضمن الثائرين في هذا “الربيع” ونستثني مصر الحمد لله التي سرعان ما استقرت واعتدلت وسار مركبها بسلام.
خدعت الشعوب العربية بالأمل في تغيير الأنظمة وتطلعت للحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة فساد الحكومات وتعزيز كرامة الإنسان، وكلها آمال مشروعة، لكنها لم تكن تعرف انّ عود الثقاب سيحرق المنطقة العربية ويحوّلها لمرمى المؤامرات الدولية التي تستهدف تمزيقنا وتفتيت دولنا ونهب خيراتها.
عود الثقاب فجر الاحتجاجات بالدول العربية مطالبة بالحرية والديمقراطية في تونس وليبيا واليمن، ومع تزايد المدّ الثوري الغاضب أطلق على تظاهراتها مسمّى “الربيع العربي”.
أطاحت ثورات الربيع بأنظمة عربية استمرّت سنوات طويلة على سدة الحكم، نعم تحرّرت الشعوب من الخوف لكنها سرعان ما فقدت الأمان في أوطانها وركب موجة الثورات أصحاب الأجندات الخارجية فتمزق الوطن العربي أشلاء وتعمّقت أزماته الاقتصادية وصار نهباً للحركات الإرهابية والأفكار الهدامة للأديان وبزغت نيران الطائفية والمذهبية.
يرجع مصطلح الربيع سياسياً الى منتصف القرن 19، بسبب الثورات الشعبية التي اندلعت في أوروبا عام 1848 وهو ما عُرف وقتها بربيع الشعوب، انطلاقاً من الموجة الثورية الفرنسية في فبراير/ شباط من نفس العام، وتأثرت فيها أكثر من 50 دولة أوروبية كألمانيا والدنمارك، والسويد، وسويسرا، وبلجيكا وإيرلندا.
واتسمت هذه الثورات بالطابع الديمقراطي وسعت لخلق دول وطنية مستقلة. وانتهت الى مجموعة من الإصلاحات الهامة منها زيادة المشاركة في الحكومة والديمقراطية، وحرية الصحافة ونهاية الملكية المطلقة في الدنمارك وإدخال الديمقراطية البرلمانية في هولندا.
عاد استخدام نفس المصطلح في أوروبا خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، من خلال ثورة المجر على السوفيات في عام 1956 باسم “ربيع بودابست”، وأطلق على ثورة تشيكسلوفاكيا ضدّ السوفيات عام 1968 تسمية “ربيع براغ”.
نجح الغرب في جني ثمار ثورات ربيعه، وهو الحلم الذي كانت تنتظر شعوبنا العربية تحقيقه، لكن للأسف سقط الحلم صريعاً أمام أجندات المؤامرات الخارجية، بل وسقطت معه الكثير من دولنا العربية ولا يزال ما بين تقسيم وتفتيت، وحروب داخلية وأهلية صعود التيارات الدينية المتطرفة.
لكننا مع أمل ان تهبّ علينا نسمات ربيع هذا العام لتحمل نسمات هواء عليل يصحّح المسارات المعوجة، ويلمّ شمل الفرقاء ويحفظ الأوطان من التشظي، ويحمي الشعوب من الشعارات الحق التي يُراد بها باطل، ليصبح التغيير للأفضل من داخلنا، ونبني مستقبل أوطاننا بسواعد المخلصين منهم.