الحاضر الغائب آرون بوشنل…
أحمد عويدات
فلسطين حرة… فلسطين حرة…
بقي يردّدها ولم يتألّم حتى آخر نفسٍ. هذه المرّة لم يتلقّ آرون أمر المهمة من قائد سربه، أو من غرفة العمليّات في القوات الجويّة الأميركيّة، هذه المرّة تلقّاها من ضميره الحي، ووجدانه وانتمائه الإنساني، نهض من سقوط لوائح حقوق الإنسان العالمية، ومن وسط موت ضمائر ما يُسمّى بـ «العالم الحر» الأعمى والأصمّ، وعالم «الأشقّاء» وما ندعوهم «أصدقاء». تلقّى مهمته الأخيرة من صرخات أطفال غزة الجياع، ونسائها الثكلى اللّاتي تطعمن أطفالهنّ خبزاً متعفناً، وتطبخن الحصى لكي يتلهّى أطفالهنّ حتى يناموا نومتهم الأخيرة، ولما يأتِ بعد أمير المؤمنين عمر.
هذه المرّة تلقّى أمر مهمته الأخيرة من صرخة طفلةٍ تحت الركام عالقةٍ بين الحياة والموت، ومن نداء حفيدةٍ احتضنها جدها الذي لفظ أنفاسه الأخيرة لكي تعيش… تلقّى المهمة من سائقي شاحنات المساعدات الـ 2000 المنتظرة أمام المعبر المصري «الشقيق الأقرب»؛ حتى يُصدر «فرمان» الباب العالي بالدخول. جاء محتجّاً من أمام البيت الأبيض الملطخ بدماء أطفال غزة رداً على الطريق البريّ لـ «الأشقاء» البررة لإيصال الخضار والمواد الغذائية والتجهيزات لدولة العدوان وقتلة الأطفال، ورداً على الإنزال الجوي الدعائي الإذلالي.
آلمته رؤية أجساد الشهداء ملقاة على الأرض في العراء وبلا أكفانٍ، آلمه أنين الأطفال الجرحى بلا تخديرٍ أو علاجٍ ولا دواءٍ أو ماء. تلقّى مهمته الأخيرة من طوابير شهداء لقمة العيش والجوع تحت القصف، ولكن فاتته مشاهد مجزرة الطحين الأحمر.
من تلك المآسي جاء آرون الطيار الوسيم الأبيض الأشقر، وهو يزهو بزيه العسكري، ولم ينسَ أن يضع قبّعته على رأسه؛ متمّماً استعداده وجهوزيته العسكرية لأداء المهمّة التي عجز عن القيام بها حتى إعلامياً – وذلك أضعف الإيمان – ما يزيد على 2 مليار مسلم، حتى أنّ بعضهم أنكر عليه حقّه في الشهادة لأجل فلسطين حرة ولأجل أطفالٍ جياع.
الشهيد آرون كان يسير بخطى ثابتة نحو هدفه وبكامل الثقة بنفسه ومشروعية وصدق توجهه. تحرك إلى سفارة الغزاة والمارقين، تحرك إلى بؤرة التدمير والإبادة الجماعية، وحرب التجويع. تحرك إلى هناك وكانت مهمته أكبر من كلّ الأقلام والصفحات، والخطابات والمؤتمرات والتنديدات، كانت مهمته تظاهرة استثنائية مثل تلك التظاهرات للشعوب الحرة نصرةً لفلسطين وشعبها. كانت مهمته رداً مدوياً على سياسات إدارة الروبوت العجوز المنحازة، بل الشريكة، في الحرب الهمجية النازية على شعب فلسطين الأعزل.
أراد آرون بوشنل أن ينأى والشعب الأميركي عن هذه الشراكة المعادية للإنسانية، وأراد أن يتنبّه شعبه إلى دسائس اللوبي الصهيوني ضدّ بلاده. أراد أن يعبّر عن القيَم الأميركية الحقيقيّة الخاصة بحرية الإنسان وحرية الأوطان التى جسدها زعماء من أمثال مارتن لوثر كينغ.
أراد بتلك النار التي أحرقت جسده أن يجعل الحقيقة أكثر سطوعاً أمام الرأي العام العالمي الصامت على الجرائم ضدّ الإنسانية في فلسطين. أراد الشهيد آرون أن يرسل رسالة إلى رفاقه وزملائه خصوصاً، وإلى الشعب الأميركي عموماً بأن لا ينغمسوا بمهامٍ قذرةٍ، وأن لا ينحازوا إلى الرواية الصهيونية التي طالما دأبت إدارة بايدن على تضليلهم بها. أراده احتجاجاً غير عادياً، وربط القول بالفعل لكلّ المتشدّقين. أراد القول بأنّ المنظومة الأخلاقية والإنسانية والقانونية في العالم قد انهارت تحت أقدام الطغاة، وأنّ الشرعية الدولية أصبحت رهينة بيد القتلة وداعمي التطهير العرقي. وآخر رسالة لآرون قالها بدمه وحياته، وليس بلسانه الملتهب فحسب؛ بأنّ الشعب الفلسطيني يستحق الحياة، وأنه سينتصر وستعود فلسطين حرة.
في ذكرى أربعينك، طوبى لك أيها البطل، سيبقى إسمك خالداً في سجل التاريخ بطلاً أممياً لنصرة الشعوب المظلومة، وجندياً ساعياً لتحقيق العدل ونشر السلام للبشرية.
[email protected]