وجودنا أمام وجودهم!!
} د. محمد سيّد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن معركتنا مع العدو الصهيوني، فعلى مدار سنوات طويلة وأنا أكتب تنويرياً أحياناً وتعبوياً أحياناً وتحريضياً أحياناً أخرى، بهدف تشكيل وعي حقيقي داخل بنية العقل الجمعي العربي، بحقيقة وجوهر الصراع مع هذا العدو، والتأكيد على أن هذا الصراع هو صراع وجود، خاصة أن هناك تياراً برز في الخمسة عقود الأخيرة داخل النخبة المصرية ثم انتقلت العدوى للنخب العربية، وبعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ مباشرة يسعى لتكريس فرضية وهمية تقول إن هذه الحرب هي آخر الحروب مع هذا العدو، وأن صراعنا معه هو صراع حدود. بمعنى أنه يمكننا التعايش مع هذا العدو بعد توقيع اتفاقيّات سلام مزعومة، على أن يسمح هذا العدو لهم بتأسيس دولة فلسطينية على جزء من الأرض العربية الفلسطينية المحتلة، وهو ما تبلور بفكرة حل الدولتين على حدود ٤ يونيو ١٩٦٧. وحاول أنصار هذا التيار التطبيعي تزييف وعي العقل الجمعي العربي على مدار نصف القرن الماضي مما خلق بعض الأتباع الذين يعتقدون بإمكانية السلام والتعايش مع العدو الصهيوني ويحاولون إقناع الأجيال الجديدة بأفكارهم الانهزاميّة التي لا أساس لها على أرض الواقع، في الوقت الذي يروّجون فيه لنظرية الواقعية السياسية التي تؤكد من وجهة نظرهم أن العدو الصهيونيّ يمتلك قدرات عسكرية متطورة وهائلة، ويلقى دعماً غربياً ودولياً منقطع النظير، لذلك لا يمكننا مواجهته، وعلينا أن نستسلم للأمر الواقع وننفّذ رغبات هذا العدو الصهيونيّ المغتصب والمحتلّ لأرضنا العربيّة. وهنا أحاول تفنيد ادعاءات أنصار هذا التيار الانهزاميّ من خلال طرح بعض الأسئلة والإجابة عليها، وهي ليست بجديدة فقد طرحنا بعضها في الماضي، لكننا نذكّر بها في اللحظة الراهنة حتى يدرك العقل الجمعي العربي الذي يتعرّض لعملية تزييف كبرى حول حقيقةش الصراع وجوهره. وهنا نبدأ أولاً بسؤال كيف كانت البداية؟ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان اليهود الصهاينة يعيشون في الشتات حول العالم، ولم يكن لهم وطن قومي يجمعهم، وعندما فكّر قادتهم الأوائل في البحث عن وطن لهم ليجمع شتاتهم من حول العالم، لم يجدوا أمامهم غير بريطانيا الاستعماريّة التي كانت تفرض سيطرتها وهيمنتها بالقوة على أجزاء كبيرة من وطننا العربيّ. واستقر رأيُ المتآمرين على اغتصاب الأرض العربية الفلسطينيّة، وتمّ الإعلان عن المؤامرة عبر ما عُرف بوعد بلفور، وهو الاسم الشائع الذي عُرِفت به الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور وزير الخارجيّة البريطاني آنذاك بتاريخ ٢ نوفمبر ١٩١٧ إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وبالطبع منح هذا الوعد من لا يملك لمن لا يستحق. فالحكومة البريطانية لا تملك الأرض العربية الفلسطينية، وإن سيطرت عليها بقوة السلاح واحتلتها، واليهود الصهاينة الذين جاءوا من كل أصقاع الأرض لا يستحقون أرض فلسطين. وقد لقى الوعد المزعوم رفضاً فلسطينياً قوياً، فاندلعت مجموعة من الثورات، جسّدت كفاح الشعب العربي الفلسطيني في مواجهة العدو الصهيوني، لكن القوى الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وأميركا استمرّتا في دعم الوجود اليهودي الصهيوني داخل الأرض الفلسطينية. وفي ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧ صدر قرار ظالم من هيئة الأمم برقم ١٨١ قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة عربية وأخرى يهودية، مما أدى إلى إعلان قيام الدولة اليهودية المزعومة دولة مستقلة على أرض فلسطين المغتصبة في ١٥ مايو ١٩٤٨. ومنذ ذلك التاريخ والشعب العربي الفلسطيني يقاوم ويحارب من أجل استرداد أرضه. وننتقل الآن إلى السؤال الأكثر إجرائياً لتفنيد ادعاءات أنصار تيار التطبيع والسلام المزعوم، وهو ما هي مخططات العدو الصهيوني الاستراتيجية التي لم ولن يحيد عنها؟ إن العدو الصهيوني عندما وقع اختيار قادته الأوائل على أرض فلسطين لتكون وطنهم المزعوم، كانوا يخططون لأبعد من الحدود التي رسمتها هيئة الأمم بقرارها الظالم رقم ١٨١ في ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧ والقاضي بتقسيم فلسطين الانتدابية إلى دولتين واحدة يهودية وأخرى عربية، وذلك بناءً على توصية لجنة بيل في عام ١٩٣٧ وفي أعقاب التوصية كتب ديفيد بن غوريون رسالة لأبنه يقول إن التقسيم سيكون مقبولاً ولكن كخطوة أولى «هذا بسبب أن هذه الحيازة المتزايدة ليست ذات أهمية في حد ذاتها فحسب، بل لأنه من خلالها نزيد من قوتنا، وكل زيادة في القوة تساعد في حيازة الأرض ككل. إن إقامة الدولة حتى لو كانت فقط على جزء من الأرض، هي التعزيز الأقصى لقوتنا في الوقت الحالي، ودفعة قوية لمساعينا التاريخية لتحرير البلد بأكمله». وهنا يجب أن نلاحظ أن بن غوريون مؤسس الكيان الصهيوني يتحدث عن كيان كبير يتجاوز ما حصلوا عليه في القرار ١٨١ الذي أعلنوا من خلاله قيام دولتهم المزعومة في ١٥ مايو ١٩٤٨. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ما هي حدود الوطن المزعوم الذي سعى قادة العدو الصهيوني لاغتصابه؟ وتتجسد الإجابة على هذا السؤال من خلال العبارة التوراتية المزعومة المنقوشة فوق باب الكنيست الإسرائيلي والتي تقول «لما تجلّى الرب على إبراهام منحه الأرض المقدسة من النيل إلى الفرات»، ويشار إلى إسرائيل الكبرى المزعومة كما يؤمن أنصار العقيدة الصهيونية بأنها أرض الميعاد التي وعد بها الرب في سفر التكوين. وهذا ما أكده تيودور هيرتزل مؤسس الصهيونية العالمية عام ١٩٠٤ حين أعلن صراحة أن حدود دولة «إسرائيل» تمتد من «نهر مصر إلى الفرات». وجاء بن غوريون لينفذ المخطط الصهيوني كما أسلفنا حيث أكد على أنهم سوف يسعون لتحرير وطنهم المزعوم بأكمله، وهو بذلك يعتبر سكان هذا الوطن الكبير محتلين ويسعى جيش الكيان الصهيوني لمحاربة الاحتلال حتى التحرير، لذلك ما تقوم به عصابات العدو الصهيوني الآن في غزة من حرب إبادة للشعب العربي الفلسطيني هي جولة من جولات التحرير المزعومة والمدعومة عقائدياً. لذلك فهذا العدو الصهيوني يعتبر صراعنا معه صراع وجود وليس صراع حدود، لذلك سوف يفعل ما يفعله بسكان غزة بسكان كل المناطق والدول الواقعة بين النيل والفرات وذلك لإيمانه بأن هذه هي «إسرائيل» الكبرى والأرض التي وعد بها الرب في كتابه المقدس، لذلك فقادة العدو الصهيوني يوهمون المستوطنين الصهاينة الذين جلبوهم من كل أصقاع الأرض أنهم يخوضون حرب مقدّسة لتحرير الأرض المحتلة من قبل العرب وهي أرض الميعاد. وقد أكد بن غوريون أثناء الاجتماع التنفيذي للوكالة اليهودية في يونيو ١٩٣٨ أنهم سيحاولون بكل الطرق تحرير «إسرائيل الكبرى»، حيث قال «سنحطم هذه الحدود التي تفرض علينا، وليس بالضرورة عن طريق الحرب، أعتقد أنه يمكن التوصل إلى اتفاق بيننا وبين الدول العربية في مستقبل غير بعيد». ومن هنا يتضح أن تأسيس تيار التطبيع ومهادنة العدو داخل المجتمع العربي قد جاء كجزء من المخطط الصهيوني الشيطانيّ، فاتفاقيات السلام العربية المزعومة بداية من كامب ديفيد، مروراً بأوسلو، ثم وادي عربة، وانتهاءً بالهرولة الخليجية، والمغربية والسودانية، قد خطط لها قادة العدو الصهيوني منذ زمن بعيد ومن لم يسلم طواعية فحرب الإبادة هي البديل، لذلك يجب أن يعي العقل الجمعي العربي أن معركتنا مع العدو الصهيوني هي معركة وجود وليس معركة حدود. فكل مَن يعتقد أن العدو الصهيوني يمكننا التعايش السلمي معه في مكان وجوار واحد فهو واهم. هذه الأرض الواقعة بين النيل والفرات وفقاً لعقيدتهم المزعومة لا يمكن إلا أن تكون لهم أو لنا لذلك فوجودنا أمام وجودهم، وبالتالي لا حلّ إلا بالمقاومة، فلا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف، وما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة، اللهم بلغت اللهم فاشهد.