بايدن ونتنياهو تغيير في المواقف أم مناورة جديدة؟!
أحمد عويدات
كثُرت في الآونة الأخيرة الأقاويل والتحليلات عن تغييرٍ ملموسٍ، ولكن ليس جوهرياً، في الموقف الأميركي تجاه الحرب العدوانية في غزة، يوازيه “تنازل إسرائيلي” تمثل بعدد من المعطيات، ومقابله تماسك موقف المقاومة وثباتها على محدداتٍ ثلاث في مفاوضات صفقة تبادل الأسرى.
تأتي هذه “الزحزحة” السياسيّة في المواقف عقب حدثين هامين في المنطقة؛ أولهما اعتداء قوات الاحتلال الإجرامي الأثيم على قافلة “المطبخ المركزي العالمي”، وثانيهما الضربة التصعيدية للقنصلية الإيرانية بدمشق، وما تبع ذلك من تواتر التصريحات من كثيرٍ من الدول المنددة بهذين الحدثين، وخاصة الناريّة منها الصادرة عن القادة الإيرانيين، ومخاوف وقلق الإسرائيليين والأميركيين، على حدّ سواء، من الردّ الإيراني القوي الذي جاء منهياً مرحلة “الصبر الإستراتيجي” الإيرانية ومغيّراً قواعد الاشتباك، ليدخل المنطقة بمرحلةٍ جديدةٍ.
إنّ هذا التغيير الهلامي في الموقف الأميركي يأتي في ظلّ تنامي غضب الشارع الأميركي، الذي يقترب من الاستحقاق الإنتخابي، وخشية بايدن وحزبه الديمقراطي من خسارة الإنتخابات؛ لا سيما بعد الإنذارين الأخيرين الصادرين عن أكثر ولايتين متأرجحتين ميتشغان وويستنسن؛ واللتين قد تحسمان الإنتخابات لصالح ترامب المنافس الجمهوري. كذلك يأتي هذا التغيير بعد مطالبة 64 من النواب الديمقراطيين بإعادة النظر بالسياسة البايدنيّة إزاء الحرب المستمرة، التي دخلت شهرها السابع بما ينذر باتساع رقعتها، وتهديد استقرار وأمن المنطقة برمتها وخاصة بعد انتهاء حرب الظل بين إيران ودولة الصهاينة.
أما نتائج هذه المطالبات، وهذا الغضب الجماهيري الأميركي فقد تراوحت بين المطالبة بوقف المساعدات العسكرية لدولة الاحتلال، أو وضع شروط مكبّلة لقادة الكيان. ولقد ابتعد سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي إلى حدّ مطالبة “إسرائيل” بـ “تغيير المسارات المتعلقة بالحرب، وإلا سيتبع ذلك تغيير في السياسة الأميركية”.
وإلى جانب هذا الوضع الداخلي الأميركي، كان هناك تنامي غضب حلفاء وأصدقاء واشنطن وابتعادهم عن مواقفها الأخيرة الداعمة لاستمرار الحرب، وأيضاً اتساع الهوّة بين هذه الدول وبين “إسرائيل” بسبب تزايد أعداد الضحايا من المدنيين، وارتكاب قوات الاحتلال المجازر بشكل علني، وقيام أكثر من جهة إعلامية ودولية بتعرية النزعة الإنتقاميّة العدوانيّة والعنصريّة لدولة الإحتلال؛ الأمر الذي أحرج المجتمع الدولي قاطبةً، حتى أنّ البعض وضع “إسرائيل” بدائرة الإتهام والإدانة، مطالبين بإجراء تحقيقات مستقلة بما يجري على الأرض من انتهاكات للقانون الدولي الإنساني.
ومن جهة ثانية وبالبعد الإستراتيجي، تخشى الإدارة الأميركية على مستقبل الكيان بعد تعاظم العزلة الدوليّة لكلتيهما، وبعد عدم قدرة قوات الاحتلال على إحراز تقدم في تحقيق أهداف حربهم في قطاع غزة؛ وذلك نتيجة لصمود المقاومة وإفشال مخطط التهجير القسري للسكان الغزيّين. ولعلّ التصريحات الصادرة عن مصادر استخبارية أميركية بالإشادة بفاعلية المقاومة، وقدرتها على مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، واستطاعتها الاحتفاظ بإمكاناتها العسكرية، وتكتيكاتها الناجحة في المناورة والتحكم بالميدان؛ إلا تعبيراً عن قلق ومخاوف هذه المصادر على أمن ومستقبل دولة الاحتلال الذي بات اليوم على المحك. لذلك أصبح الخطاب الأميركي يعطي أولويّة للوضع الإنساني في غزة، أكثر من القضاء على حماس الذي كان أولويّة مشتركة مع دولة الكيان. وكذلك تغيّر الدور الأميركي من شريكٍ إلى جانب “إسرائيل”، إلى وسيطٍ في مفاوضات صفقة تبادل الأسرى التي لم تفض إلى إتفاقٍ بعد .
أما في الجانب الإسرائيلي، فإنّ “الزحزحة” في مواقف نتنياهو تكمن في الإعلان عن فتح معبر إيريز، والسماح بزيادة حجم المساعدات التي تدخل إلى غزة والتي ستصل إلى 500 شاحنة يومياً بناءً على الطلب الأميركي؛ وهذا لم يُنفّذ على الأرض بعد، وبقي مجرد إعلان، كذلك عودة وفد نتنياهو إلى مفاوضات صفقة التبادل وبمزيدٍ من الصلاحيات، وعودة الحديث عن أولوية إطلاق سراح الأسرى، كذلك تخبّط ملحوظ في المواقف من عملية رفح.
كلّ هذا يأتي إذعاناً من نتنياهو لواشنطن والتي يرى فيها داعماً له في مأزقه الأخير مع إيران؛ وهذا ما حصل علية فعلياً من إدارة بايدن عندما شاركت الولايات المتحدة مع بريطانيا وفرنسا في “الدفاع عن إسرائيل ضدّ الهجوم الإيراني” بالتصدي لعشرات المُسيّرات والصواريخ التي انطلقت من إيران، وإدانة قادة الدول السبع للهجوم الإيراني .
هذه “الزحزحة” تأتي أيضاً بعد سلسلة من التطورات في الداخل “الإسرائيلي”. أولها، مشكلة اليهود الحريديم برفضهم التجنيد في الجيش؛ الأمر الذي أحدث جدلاً واسعاً في الأوساط الإسرائيلية، واتخذ أبعاداً خطيرةً، خاصةً بعد تهديد حاخامهم بمغادرتهم البلاد. وثانيها، تفاقم الغضب في الشارع الإسرائيلي؛ والذي تجاوز المطالبة بعقد صفقة تبادل الأسرى إلى المطالبة بإسقاط نتنياهو وحكومته، وإجراء انتخابات؛ بعد انكشاف دور نتنياهو بالمراوغة والمناورة في قضية الرهائن، ومسؤوليته المباشرة عن تعطيل إبرام صفقة التبادل. ثالثها، الدور البارز لحلفاء الأمس لنتنياهو بتأجيج هذه الدعوات، وبالتشارك مع المعارضة. رابعها وأهمّها، ضغط الميدان من خلال العمليات النوعية المركبة التي تمّت في منطقة الزنة وحي الأمل، والذي شكل دافعاً رئيسياً في اتساع الحراك الشعبي في الداخل الإسرائيلي، وقدّم أيضاً حافزاً قوياً للمفاوض المقاوم في جولة المفاوضات الجديدة، وفي المقابل شكّل عاملاً ضاغطاً على المفاوض الإسرائيلي.
وفي السياق ذاته، وفي البعد الاستراتيجي، يفرض هذا الوضع الميداني العسكري للمقاومة حضوراً استثنائياً أحدث توازناً جديداً؛ سيدفع قادة الاحتلال والمجتمع الإسرائيلي إلى تغييرٍ في رؤيتهم للواقع الفلسطيني في ظلّ هذه المقاومة الأسطورية التي أضعفت نتنياهو ومجلسه الحربي، “وعكازته” من أحزاب المتدينين المتطرفين، وتدفعهم إلى التراجع عن أهداف الحرب التي كانوا قد أعلنوها، وكذلك سقوط حلم نتنياهو بتحقيق “النصر المطلق” على المقاومة والشعب الفلسطيني، وإحداث تغيير حقيقي أمني وعسكري وسلطوي في غزة. وما الانسحابات الأخيرة لقوات الاحتلال من خان يونس إلا تعبير عن هذا الفشل، ووصول القادة العسكريون إلى قناعةٍ بأن لا جدوى من بقاء هذه الأعداد الهائلة من الجنود تحت مرمى نار المقاومة هناك. ولربما كان هذا استجابة لطلب أميركي بضرورة أن تغيّر “إسرائيل” من مساراتها في هذه الحرب؛ وذلك ضمن خطّةٍ أميركية إسرائيلية مشتركة لاجتياح رفح كما جاء في تصريحات بلينكن وزير الخارجية الأميركي عندما قال: “قدّمنا وسائل بديلة وأكثر نجاعةً لتحقيق ما تطلب إسرائيل”.
في النهاية، أياً كانت المواقف أو المتغيّرات فإنّ الثابت الوحيد هو صمود المقاومة وبسالتها في المواجهة، وتمسكها بأهدافها في مفاوضات صفقة تبادل الأسرى المتمثلة بإنهاء العدوان، وانسحاب الغزاة، وعودة النازحين إلى شمال غزة…
[email protected]