قراءة سيكولوجية في محرقة غزة…
} فيوليت داغر
بات من المعلوم للكثير من المتابعين للأحداث على المسرح الدولي، أنّ معظم القيادات السياسية والسلطوية، في عالمنا الراهن بنوع خاص، تتحرك كالدمى بإرادة من يملك السلطة والمال وأساليب الضغط الناعمة والقاسية، ويسيطر على عصب الشركات العابرة للحدود والمؤسسات الحقوقية الأممية وحيث تمركز المال ومصانع إنتاج السلاح وصناعة الانترنت والغذاء والدواء وليس انتهاء بالإعلام. فالأجندة المرسومة لهذه القيادات هي واحدة في خدمة هذه الطغمة، وإنْ اختلفت طريقتهم في تنفيذها. بحيث أنّ الانتخابات الديمقراطية ليست سوى تمثيلية ضحك على الذقون لتمرير من تتجنّد له الإمكانات حتى لو لم يختره الشعب بالأغلبية. أساليب التزوير متعددة، والانقلابات والمحاكمات التي تؤدي للإبعاد عن مسرح العمليات، وأحياناً للسجن بتهم ملفقة، نصيب من لا يذعن ويقاوم المبيت في الحظيرة. هم استحقوا أماكنهم لتنفيذ ورقة عمل المافيا القابعة في الظل، والتي تملي قراراتها لإدارة الأحداث وتعطي التوجيهات دون استشارتهم، ولنا في ذلك أمثال كثيرة.
بالتأكيد يأتي هنا دور الإعلام المدجّن لتوجيه الرأي العام، بكيّ وعيه وتطويعه على مفاهيم وأنماط سلوكية تذهب باتجاه معاكس لحقه في الحرية والكرامة وحتى بالحياة. المكيافيــليون الساديون المنحرفون المجردون من السمو الروحاني والمــثل العليا والأخلاق واحترام القانون هم الصنف الذي نتــكلم عنــه. فكــي تصـل وتسيطر، عليك أن تدوس على الآخرين في طريقك دون مشاعر بالتعاطف.
لم يحن الأوان بعد لتغيب عن الذهن مسرحية ما أطلق عليها «جائحة الكوفيد» كونها خير شاهد على ذلك. فمن اعترض وناقش، اتهم من أقرب الناس له بالموتور والخاضع لنظرية المؤامرة، رغم أنّ الكثير من هؤلاء فضل خسارة عمله مقابل عدم خضوعه لعملية التدجين عند إطلاق حملات التلقيح. أما الخبراء والمختصون المرتشون، فهم من كانوا دون سواهم يختالون على شاشات التلفزة، لفرض أجندة أصحاب المؤامرة الحقيقية، وليخبروا كلّ من تسوّل له نفسه الرفض أنه يعمل ضدّ نفسه وصحته ومصلحته ومجتمعه.
لن أسترسل في الموضوع، فهذا ليس سوى مثال لكيفية قيادة الشعوب لحتفها، عندما يكون اللجوء لتقنيات جربت في بروفا أولية على صعيد دولي. وقد يتمّ العودة لها في وقت قادم وإخراج الأرنب من القبعة لمفاجأة العالم بمؤامرة جديدة. الأمر الذي جعلني شخصياً لا أستغرب مطلقاً، مع بدء أحداث غزة، أن يُباد الآلاف بكلّ الأشكال المتاحة، خلال مدة زمنية قصيرة دون أن يرفّ لهم جفن.
أكثر من ستة أشهر مضت وهم يسترسلون في الكذب والتمثيل والدوس على القوانين والأعراف والمواثيق الدولية لتنفيذ مآربهم. أفكار هدامة وسلوكيات مرضية في النهاية لنفوس مشوّهة نفسياً تحكم هذا العالم، ولا ترى فيه سوى مرتع لجني الأموال وتحقيق المصالح والاستحواذ على ثروات الأرض، ولو كان ذلك على حساب حياة الملايين والمليارات من البشر. لكن العنف يدمّر أولاً من يستخدمه مهما طال الزمن، وهذه قاعدة معروفة في علم النفس الباتولوجي.
شخص من نوع نتن ياهو ينتمي لهذه الفئة، وهو محور تركيزنا هنا. فهو، وإنْ بدا للبعض يتحلى بالسطوة والثقة بالنفس وقوة الشخصية، لا يقوم بما يفعله على مسرح الأحداث بمفرده، بل بإيعاز ومساندة من هؤلاء الذين نؤشر لهم. حتى الساعة ورغم كلّ ما حدث، ما زال غير معني بوقف حربه على غزة، ولم يعط بعد وفد المفاوضات صلاحيات للتفاوض. إنما بعد الردّ الإيراني بات أكثر من ذي قبل غير قادر سوى على التهديد والوعيد. أقول حتى الساعة، لأنه قد يجرّ من يوافقه في المؤسسة العسكرية، ومن يدعمه من وزراء في حكومته على خلفية التعجيل في ظهور المسيح، لتنفيذ عمليات هجومية على قاعدة «عليّ وعلى أعدائي…» ذلك للمشاغلة وربح الوقت، هرباً من الخروج من المسرح السياسي الى السجن. لكنها مشاغلة باعتقادي ستبقى رمزية، حيث بات مستحيلاً، مع تحالف محور المقاومة، الذهاب لخطوات تدميرية كبرى غير مقدور عليها. لقد سعى لجرّ الغرب لحرب شاملة في الشرق الأوسط، وهو الذي يعلم أنّ لذلك عواقب جمة على المنطقة والعالم. وهنا قد أذهب للمراهنة على أنّ احتراق ورقته قد دنا بعد أن ذهب لأبعد ما يستطيع، كون مصالح الرأسمال العالمي تتناقض مع الاسترسال في هذا النهج المدمر، الذي بدأت تظهر الأرقام أنّ استنزافه الاقتصادي بلغ حداً كبيراً.
مآلي هنا ليس دراسة حالة كما نفعل في علم النفس الكلينيكي والباتولوجي، كون ذلك يحتاج لمعرفة الشخص عن كثب واطلاع كاف على حياته، وإجراء اختبارات نفسية وغير ذلك، لتأكيد الاستنتاج وعدم التسرع في الحكم. خاصة أني من النوع الذي يخشى التعميم، كون في ذلك قلة حذر، كما هو خطأ منهجي على أية حال. إنما من المعطيات المتوفرة من خلال مراقبة السلوكيات، هناك ما يسمح بإلقاء بعض الضوء على هذه الشخصية المحورية، التي تهز بقوة حالياً أركان فلسطين والكيان والمنطقة. وللدقة أضيف، أنّ المبدأ المعروف بأنّ السلوكات البشرية تتدرّج على خط مستقيم بين العادي للباتولوجي وما بينهما، لا يسمح لي بأحكام مطلقة. فهذا شغل أطبائه، علماً أنه قد سرّب أنّ الطبيب النفسي السابق لنتن ياهو قد انتحر جراء معاناته معه.
هذا الشخص من النوع الذي يجمع إلى الانحراف النرجسي السادية والبارانويا، المعروفة ببلوغها حالة الهذيان أحياناً وانفصالها عن الواقع، بما هو من صنف الذهان، كما في حالة انفصام الشخصية. إنه من هؤلاء «القادة السامين»، الذين يثيرون أعمق المخاوف عند الجمهور لجنوحهم للاستبداد، وكره الآخرين الذين يخيفونهم ويؤثرون على شعورهم بالثقة بأنفسهم. فهم محتاجون لمعرفة كلّ شيء يدور حولهم، واستبعاد من يخشونهم وتقريب من يتمكنون من السيطرة عليهم.
هذا الرجل الذي قبع طويلاً في سدة رئاسة الوزراء الإسرائيلية يبدو متمحوراً جداً حول نفسه. الأحداث أظهرت كم هو متردّد في اتخاذ القرار، ويستند على الكذب والدجل والمناورات السياسية للحصول على مبتغاه. باستعمال الدين واستخدام المفاهيم التوراتية والطقوس التلمودية، يلجأ للابتزاز العاطفي لأترابه وللعالم. ليس لأنه ديني بل هو علماني، لكن تحقيقاً لأغراضه الشخصية في الإقناع والسيطرة، ولينجو بنفسه من السجن والمحاسبة ولو على ظهر أمن الشعب والكيان. اعتماده على التعبئة الدينية كونها تمنح شعوراً بالاستمرارية التاريخية لـ «الأمة اليهودية»، وتبقي على توازن الخوف مع البلدان الأخرى. هو يظهر الاقتدار والسيطرة على الأوضاع وينتظر التصفيق لنجاحاته، لكن القرارات لا يتخذها ديمقراطياً، ولو أنه يحلو له وصف كيانه بالبلد الأكثر ديمقراطية في الشرق الأوسط.
من ليس على عيونه غشاوة يبصر فشله في إدارة شؤون الكيان كرئيس وزراء صمد في كرسيه لفترة طويلة نسبياً. لقد كان وما زال يتعامل بالتكتيك وليس بالاستراتيجيا، ورغم التهديدات المتكررة لم يدخل رفح ولا ردّ على الردّ الإيراني. وهو الآن في صدد المناورة السياسية لدخول رفح بدلاً من الردّ على إيران، كون ذلك فوق طاقته وجيشه الأكثر تسليحاً في المنطقة. وإنْ كان ما زال يشتري الوقت ويؤجل أجله بالتدمير الممنهج للفلسطينيين وعدم الاستجابة لأي طرف يطالبه بالتوقف واحترام العهود والمواثيق الدولية والإذعان للقرارات الأممية، فهو يحتاج وأكثر من السابق للتدخل الأميركي والأوروبي وبعض العربي للمساندة في العمليات العسكرية وحماية الكيان. كان ينجح في إيقاظ الحسّ القومي اليهودي، لكن هل عالج المشاكل، أم أنّ جنون العظمة أوْدى مع الوقت للتهلكة له وللمجتمع الذي يدير شؤونه؟ سلوكه هذا ونتائجه المدمرة أشعر شعبه بزيادة مضطردة في التوتر والقلق وباقتراب الطوفان الذي سيجرفه وهم معه. لذا هو دائم البحث عن شمّاعة لتحميلها المسؤولية عند الفشل وفيما آل إليه الوضع. إنّ سوء العلاقات والاتهامات المتبادلة مع البعض في الجيش وغيره، لهي أكبر دليل على هذا السلوك المضطرب القلق غير الواثق من أحد ولا من نفسه. حيث يعد بأيّ شيء ولا ينفذ، كمن لا كلمة له ولا شرف الكلمة أو الموقف.
يلجأ هذا الشخص لهذا النوع من السلوك، لأنه مصاب باعتلال نفسي يجعله لامبالي بمشاعر الآخرين، وغير قادر على التواصل مع من يجب التنسيق معهم. أما العدو، فلديه استمتاع بإلحاق الأذى الكبير والمعاناة به. وكلما زاد الجرعة كلما تضاعف الرضا عن نفسه والرغبة في تدميره. فهو ينظر له بازدراء ويعمل على زعزعة استقراره وفقدان حياته، متجنباً رؤية الفجوة الكبيرة في نفسه بين ما هو عليه وما يستطيعه. صدمة الطفولة جعلته ينقطع عن عواطفه ويفتقر لاحترام ذاته. كيف تحب الآخرين عندما لا تحب نفسك؟ هذا الخلل يعود لعمر مبكر، من 2 إلى 3 سنوات. لكن كونه لا يوجد وعي ذاتي في هذا العمر للصدمات المعاشة، فهي تتنقل بين الوعي واللاوعي دون شفاء منها، والخلل يصبح بنية شخصية. إذن نجاحه شيء من الانتقام لطفولته ومن والديه. وهذا الهوس غايته وضع ضحيته في حالة من التجمّد والدهشة والتبعية والابتزاز العاطفي والتجريد من الحسّ النقدي ومن طاقتها الحيوية ويسلبها القدرة على تحرير نفسها منه. قد يقتل الآخر ويمتص دمه لينتهي به الأمر في بعض الأحيان للانتحار أو ما يوازي ذلك من أعمال.
أخلص للقول بأنّ مرضى نفسيين على هذه الشاكلة يفترض أن يخضعوا لعلاج نفسي، بعد وضع حدّ لأعمالهم وسلطاتهم، كي لا يستخدموا في زمان ومكان آخر، ويواصلوا نقل أمراضهم للأجيال المتعاقبة مسقطين عليهم ما في نفوسهم واستيلاد مشاكل جديدة للعالم. فالأرواح الشريرة تنتقل من جيل إلى جيل وتعيش نفس الأنماط النفسية – الاجتماعية إنْ لم تجد ما يقف حائلاً أمامها، أو لم تعمل على تنقية نفسها من الشوائب التي راكمتها على مرّ الزمن. ومن لا يدرك ذلك يستغرب كيف أنّ بشراً، عاشوا من خلال أهلهم وأجدادهم معاناة الهولوكست، يمكن أن يمارسوا المحرقة على من عداهم بأشدّ ما يكون من توحش وعنف وهمجية، ووسمهم بالحيوانات التي تستحق أن تسحق. هم في ذلك يستندون للتوراة وتعاليمهم الدينية لدعم توجهاتهم الباتولوجية. وفي حين أنّ معظمهم علمانيون، يعجب المرء كيف لهم أن يجمعوا بين هذين المتناقضين في سلوكهم وممارساتهم. لكنها ليست أكثر من تبريرات يستندون لها ليطلقوا العنان لتشوّهاتهم النفسية التي ما زالت قابعة في أعماقهم كونها وصلت لتغيير جيناتهم بحيث باتوا كالوحوش الضارية. والصهيونية التي لا بدّ تجتذب من ترى فيهم صورتها، درست جيداً كيفية استخدام من بلغت التشوّهات الخلقية والنفسية والسلوكية لديهم مبلغاً، لاستعمالهم إرضاء لرغباتها وخططها في السيطرة على العالم.