أولى

من الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» إلى الصراع الإيراني ـ «الإسرائيلي»!

د. عدنان منصور*

بعد العملية العسكرية للوعد الصادق التي قامت بها إيران ضدّ كيان الاحتلال، لم يعُد الصراع مع «إسرائيل» محصوراً بالعالم العربي بعد أن تخلّت أغلبية قادة دوله وزعمائه عن قضية فلسطين، وانحرفت بوصلتهم الى تل أبيب، مهرولين باتجاهها ومعترفين بها ومطبّعين معها.
لم يكن موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية من الكيان «الإسرائيلي» يخضع كما هو حال الزعماء العرب لتقلبات في المواقف السياسية القابلة للمساومات والتراجع وفقاً للمتغيّرات وتطورات الأحداث في المنطقة.
الفرق في جوهر الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» والصراع الإيراني ـ «الإسرائيلي»، هو أنّ غالبية الحكام والزعماء العرب جعلوا من صراعهم مع العدو منذ عام 1948 وحتى اليوم، صراعاً سياسياً وليس عقائدياً ثابتاً. إذ اتسم هذا الصراع الى حدّ بعيد بمزايدات القادة والحكام العرب، والتذبذب في مواقفهم السياسية المزاجية، منذ نشوء الكيان «الإسرائيلي» المؤقت. كثيراً ما كانت مواقف هؤلاء تتماشى مع أهواء، ورغبات، ومصالح القوى الغربية التي كانوا ينسجون علاقاتهم معها بالسر، ويلتزمون بسياساتها ومواقفها المنحازة لـ «إسرائيل» حيال القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. لذلك آثر العديد من القادة العرب منذ 76عاماً من عمر الكيان أن لا يتفقوا على قرار موحد، او يلتزموا باتفاق جماعي يواجهون به العدو «الإسرائيلي»، الذي بقي ثابتاً على مواقفه من فلسطين وشعبها، ورفضه المطلق لقيام الدولة الفلسطينية، في الوقت الذي وجدنا فيه معظم القادة والزعماء العرب يتخلون عن القضية، باستثناء تصريحات نظرية خجولة تصدر عن هذا وذاك، داعمة للفلسطينيين لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
لم يتفق القادة العرب منذ قيام «إسرائيل» على خطة قومية ثابتة لا في السلم كي يسالموا معاً، ولا في الحرب كي يحاربوا معاً، ما ترتب عن ذلك، تخلي العديد منهم عن شعار حملوه في قممهم لسنوات طويلة: لا صلح، لا اعتراف، ولا مفاوضات مع «إسرائيل»، الى أن جاء الوقت في ليلة ظلماء، ليتبدّد الشعار على يد البعض ليعترفوا بـ «إسرائيل» ويقيموا علاقات دبلوماسية معها؛ فيما اقتصر البعض الآخر حتى الآن على إقامة علاقات «مساكنة»، وعلى مستويات عدة دون صخب أو ضجيج، تمهّد في ما بعد للاعتراف العلنيّ بالكيان.
لم يبق في هذا العالم العربي المتخبّط، سوى عدد من الدول العربية لا يتجاوز أصابع اليد، بقيت على العهد تعيش هموم الأمة، وتلتزم بقضاياها القومية، وتدافع عنها، وبالذات عن القضية الفلسطينية.
إنّ عدم التزام غالبية القادة العرب بقضيتهم القومية،
والثبات على موقفهم، والتمسك بحقوق شعوبهم، وتخاذلهم في الدفاع عن أمتهم وأمنها القومي، جعلهم يبتعدون شيئاً فشيئاً عن جوهر الصراع، وعدالة القضية الفلسطينية التي وظفوها للاستهلاك المحلي العربي، واعتبروها في الشكل «قضيتهم المركزية» يردّدونها كالأسطوانة المشروخة مع كلّ خطاب وفي كلّ مؤتمر عربي فولكلوري يتعلق بفلسطين.
لم يكن عجيباً أن يرتدّ العديد من الحكام والزعماء العرب عن «قضيتهم المركزية» كما عوّدونا على سيرتهم السياسية حيال القضية «المركزية» منذ عام 1948، لكن العجب هو أن يبقوا ملتزمين بقضيتهم
ولا يطعنونها في الخفاء مع العدو، ويتخلون عنها في بازار سياسات العرض والطلب، والإغراءات المزيّفة المقدمة لهم، في سوق العمالة الموصوفة، والانبطاح الذليل أمام العدو.
لقد سقط على الصعيد الرسمي مفهوم الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، وعلى أيدي الحكام الذين آثروا الإطاحة بالقضية، واللهاث وراء «إسرائيل» وحماتها في العالم. لقد أصبح من الصعب إعادة ترميم مفهوم الصراع مع العدو، طالما انّ العديد من القادة المتواجدين على الساحة العربية عملوا لهذا الواقع، وارتضوا به. فلو كانت العقيدة القومية راسخة متأصّلة في عقول هؤلاء، ما كانوا ليأخذوا هذا المنحى المنحرف الخطير، ويخذلوا شعوب الأمة كلها، ليجيّروا مهمة الصراع مع «إسرائيل» إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لتأخذ المبادرة مكانهم، وتقوم بدورها الحاسم والحازم في الصراع مع «إسرائيل»، وهي تستند الى ثوابت عقيدتها، ومبادئ ثورتها الواضحة، التي لا تقبل المساومة أو التراجع، أو الانبطاح أو الغدر بالقضية.
لا مجال أمام إيران للمهادنة او للصفقات تحت الطاولة، أو بيع القضية في أسواق تل أبيب والولايات المتحدة، وزبانيتها في المنطقة.
فلسطين والقدس والمسجد الأقصى ومهد السيد المسيح يعني الكثير الكثير لإيران وشعبها، قبل انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وأثناءه وبعده.
يسجل لآيات الله في إيران أنهم وقبل انتصار ثورتهم عام 1979 كان موقفهم يتسم على الدوام بالصلابة، والرفض القاطع لوجود الكيان الصهيوني في المنطقة. هذا الموقف لآيات الله لم يأت مع انتصار الثورة الإسلامية فحسب، إنما كان حاضراً بكلّ قوة، وفي كلّ مناسبة، منذ تأسيس الكيان المحتلّ.
عند إعلان قيام دولة «إسرائيل» عام 1948، اتخذت القوى الدينية المتمثلة بالحوزة الدينية في قم، موقفاً صريحاً رافضاً لدولة الاحتلال، بعد ذلك دعت الحوزة الدينية الإيرانيين الى مساعدة الشعب الفلسطيني والوقوف الى جانبه.
كان على رأس هؤلاء آية الله السيد حسين بروجردي، وآية الله أبو القاسم كاشاني اللذان أعلنا وقوفهما ضدّ سياسة شاه إيران الهادفة الى إقامة علاقات مع «إسرائيل». لقد وصف كاشاني إعلان قيام «إسرائيل»، بأنه «سيكون مرتكز المفاسد الكبرى للمسلمين والشرق الأوسط، بل ولكلّ العالم، ولن تنحصر أضراره بالعرب والفلسطينيين فحسب».
لم تخرج فلسطين مرة من دائرة اهتمام مفجر الثورة الإسلامية الإيرانية آية الله روح الله الموسوي الخميني، الذي كان يتطلع دوماً الى حركة مقاومة يريدها على مستوى الأمة الإسلامية كلها، ولا يريد حصر معركته ونضاله من أجلها في الإطار القومي والوطني الضيق او الشيعي المحدود. لذلك أراد الإمام ان يطرح القضية الفلسطينية من بابها الواسع، طالما أنها قضية إنسانية عادلة تهمّ الأمة الإسلامية كلها، ومنها الشعب الإيراني والشعوب العربية الأخرى.
جاء طرح الإمام الخميني هذا، بعد ثلاثة أشهر من حرب حزيران/ يونيو، وبعد تصريح للشاه يوم 21 أيلول/ سبتمبر1967، الذي أيّد فيه حقّ «إسرائيل في الوجود».
من أجل دعم المقاومين الفلسطينيين، أصدر الإمام الخميني يوم 21 أيلول/ سبتمبر 1968 فتوى بتقديم الزكاة، وسائر الصدقات للمقاومين الفلسطينيين، حيث تمّ فتح حساب مصرفي موقع من قبل آية الله الطباطبائي، وآية الله مطهري والسيد أبو الفضل الزنجاني في المصرف الوطني، وبنك صادرات إيران، وبنك تجارت دعماً للمقاومة الفلسطينية.
لم تتغير المواقف الثابتة لآيات الله ورجال الدين، والشعب في إيران، من «إسرائيل»، وهي مواقف ترتكز الى عقيدة دينية، وأبعاد إنسانية غير قابلة للتصرف او التبدّل. من هنا يرى الغرب و»إسرائيل»، وخلفهما تجار المواقف السياسية من العرب، انّ «الخطر» الحقيقي والفعلي يأتي من إيران، لأنه يصعب ترويضها أو زحزحتها عن مواقفها وأهدافها، وحرف خط سيرها، وتحويل مسارها لتكون دمية مثل الآخرين، في يد قوى الهيمنة والاحتلال، تطبّع وتطوي نهائياً صفحة صراعها مع «إسرائيل».
بعد خروج معظم العرب من الساحة الفلسطينية، يصعب الحديث بعد الآن عن التزام العديد من الأنظمة العربية وحكامها بقضية فلسطين «المركزية»، والوثوق بصراعهم الوهمي مع «إسرائيل» وهم يطبّعون معها، لكن على الجانب الآخر هناك إيران من أحرجت، وفضحت وعرّت مواقف أنظمة عربية ما كانت يوماً وفية للقضية الفلسطينية لا من قريب او بعيد، بل كانت على الدوام وديعة دسمة، واحتياطاً ثميناً، وقيمة كبيرة لقوى الهيمنة الغربية وقاعدتها في تل أبيب.
غزة اليوم بكلّ مقاومتها وتضحياتها ومآسيها تنقل الصراع المكشوف الى يد أمينة تعبّر عن ضمير وكرامة الأمتين العربية والإسلامية، وأحرار العالم.
إنه تحوّل جذري في المشهد الشرق أوسطي يسجله التاريخ، حول صراع عربي ـ «إسرائيلي» تخلى عنه العرب بكلّ ما يحمله هذا التخلي من مرارة، وذلّ، وتخاذل، وجبن وانحطاط، ليفسح المجال أمام دولة ما تخلت يوماً منذ انتصار ثورتها عن تبني القضية الفلسطينية ودعمها بكلّ الوسائل، رغم كلّ الحصار والعقوبات التي فرضت عليها بسبب ذلك.
في ظلّ الزحف العربي باتجاه «إسرائيل»، وإنهاء الصراع معها على أيدي من أرادوا وأد القضية الفلسطينية، يبقى في الميدان الصراع الإيراني ـ «الإسرائيلي» الحقيقي، وهو صراع مستمرّ، مدعوم ومؤازر من ما تبقى من العرب الأحرار، صراع لا رجوع لإيران عنه، بعيداً عن المهادنة أو التخلي عن عقيدتها وواجباتها الدينية والإنسانية، التي تحتم عليها مواجهة «إسرائيل» حتى تحرير فلسطين وقدسها وشعبها من الاحتلال.
شتان بين الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، الذي تعاطى معه قادة وزعماء عرب بمزاجيّة سياسيّة، وعمالة لقوى خارجية تخدم مصالحهم الخاصة وتحافظ على كراسيهم، والصراع إلإيراني ـ «الإسرائيلي» الذي تخوضه إيران بعقيدة إيمانية ثابتة صلبة، لا تعيق سيرها، أو تحبط عزيمتها ضغوط وتهديدات قوى الاستبداد الغربية، أو تغريها تقديماتها، ومساعداتها، لحملها على التخلي عن القضية وضربها بالصميم، والتحالف مع العدو ضدّ الشقيق، كما فعل بعض الحكام العرب.

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى