فارقان عن ثورة 68 وراء الذعر من الثورة الطالبية
ناصر قنديل
– المشهد الأميركي الذي يرتسم حول الثورة الطالبية التي بدأت في جامعة كولومبيا، عبر مخيمات طالبية مساندة لمخيمات النازحين في غزة، وطلباً لوقف دعم كيان الاحتلال وتزويده بالمال والسلاح، تخطّى الحدود التي تضعه في نطاق حركة احتجاجيّة تخشى الجهات الحاكمة أن تؤثر في الشارع واصطفافاته حول الحرب على غزة، لأن يرافق القمع الوحشي للطلاب من خطاب سياسيّ وتجييش إعلاميّ وصولاً إلى استنفار من شخصيّات كيان الاحتلال، يؤكد وجود حملة مبرمجة تحمل شعارات موحّدة مدروسة تكشف حجم الذعر من هذه الحركة الطالبية، خصوصاً مع اتساع حركة التضامن معها على مستوى سائر الجامعات الأميركيّة، وعدد متزايد من جامعات الغرب خصوصاً والعالم عموماً.
– كثيرة هي أوجه الشبه بين هذه الثورة الطالبية وثورة الطلاب العالمية عام 1968، التي بدأت من خلال تعاظم التحركات الاحتجاجية بوجه الحرب الأميركية على فيتنام، وتلاقت مع دعوات التضامن مع ضحايا القمع في بلدان أميركا اللاتينيّة، ومع الحركة العمالية الاحتجاجية في عدد من دول الغرب، خصوصاً في فرنسا، لكن المركز الغربي الذي تمثله أميركا كان لا يزال قادراً على احتواء تداعيات هذه الثورة الطالبية، واستيعاب حركة الكثير من نخبها ضمن المشروع الليبراليّ الذي كان يمثل الحلقة المقبلة لتطور الغرب وكانت جيناتها قيد التشكل، ومثلت بعض شعارات الثورة الطالبية بعضاً من عناوين تسويق المشروع الليبرالي الذي سارع لتبنّيها، خصوصاً على مستوى الحرية الفردية الجنسيّة وصولاً إلى تشريع الشذوذ.
– المشكلة مع الثورة الطالبية الجديدة التي تشكل أميركا وليس أوروبا ساحتها المركزية، أنها تصيب مفاتيح مركزيّة في المشروع الغربي لا يمكن احتواؤها، فهي لا تلعب على القشرة بل تذهب إلى اعمق الأعماق في الجملة العصبية للمشروع الاستعماري والليبرالي، وتتميّز عن ثورة 68 بأنها تطال انخراطاً أميركياً وغربياً في حرب لا يحتمل المشروع الغربي الاستعماري المساومة عليها، والحفاظ على زخم استمراره بعد ذلك. والحرب المقصودة هي حرب بقاء كيان الاحتلال في قلب البلاد العربية، واحتفاظه بنصاب من القوة يمكنه من حراسة المصالح الغربية وتأديب حركات المقاومة. وهذه حرب تختلف جذرياً عن حرب فيتنام التي كانت على أهميتها في فرض الهيبة الأميركية والغربية على حركات التحرر وشعوب العالم، حرب يمكن وقفها واحتواء نتائج خسارتها، كما قالت لاحقاً مفاوضات باريس لإنهاء حرب فيتنام، وكما قالت النسخة الجديدة من المشروع الاستعماري بعد حرب فيتنام، حيث لم يعد الغزو العسكريّ ملازماً لتوسّع المشروع الاستعماري بنسخته الليبرالية، الى أن دقت حركات المقاومة باب الغرب بانتصارها على كيان الاحتلال عام 2000 عبر تحرير جنوب لبنان، الذي أسس لزمن الحروب الأميركية من أفغانستان الى العراق وصولاً الى الحرب الهجينة على سورية، لتطويع قوى المقاومة وعمقها الذي مثلته كل من إيران وسورية، وردّ الاعتبار لمكان كيان الاحتلال وهيمنته العسكرية على البلاد العربية.
– تمسك الحركة الطالبية الجديدة بتلابيب السردية الأميركية الصهيونية وتفككها، ولا تكتفي بالاشتباك مع الأداء السياسي لحكومات الغرب والإدارة الأميركية على رأسها. فالقضية في الوعي الطالبي تجاوزت قضية الدعوة لوقف الحرب، وقد قال 51% من الشباب الأميركي منهم 74% من طلاب الجامعات، أن كل سردية وجود الكيان ملفّقة، وأن الانحياز الى الحق الفلسطيني يعني الانحياز لشعار فلسطين حرة من البحر الى النهر، وإزالة الكيان من الوجود، ويمسك الطلاب بوعيهم بتفاصيل القطب المخفية لنظام الهيمنة بثلاثيّة ركنها الأول هو التوحّش سواء الاستهلاكيّ وصولاً الى نظرية الإبادة للجنس البشري ونظرية المليار الذهبي، أو الدمويّ بمفردات العنصرية والاستيطان والقتل أو الاستعمار أو القمع، وركنها الثاني دولة عميقة تديرها الطغمة المالية المهيمنة على السياسة بكل وجوهها، لحساب كارتلات ضخمة، أبرزها كارتل صناعة الأسلحة، وركنها الثالث الهيمنة على وسائل الإعلام، ومحاولة إعادة صياغة الشخصيّة الإنسانيّة تحت عنوان إنسان القرن الحادي والعشرين، أخلاقياً وثقافياً واستهلاكياً، وأظهر الطلاب في شعاراتهم فهماً واضحاً لهذه الثلاثية، فأطلقوا رؤيتهم للقضية الفلسطينية التي تجاوزت رؤية الكثير من النخب العربية الصادقة بتبني الحق الفلسطيني، لكن الواقفة تحت سقف حل الدولتين، وأضافوا إليها دعوة صريحة لوقف تسليح كيان الاحتلال ورفع يد صنّاع السلاح عن مراكز صنع القرار السياسي موثقين هذه السيطرة بمراسلاتهم لأعضاء الكونغرس، ثم نشروا تفاصيل موثقة لكيف تشتغل وسائل الإعلام العملاقة ومَن يسيطر عليها ومَن يصيغ خطابها، ثم مَن يتدخل في رسم سياسات وعناصر ضبط الأداء القيميّ على وسائل التواصل الاجتماعي وكيف يقوم بإدارتها.
– بصورة غير مسبوقة تتدفق تصريحات ومواقف عشرات الشخصيات الأميركية، ومعها قادة الكيان، لوصف الحركة الطالبيّة بحركة عنفية معادية للسامية، تشكل خطراً على السلم الأهلي، وتهدد بتطهير عنصري يستهدف اليهود، بل إن وول ستريت جورنال لم تتورّع عن القول إن حماس وحزب الله والحوثيين هم مَن يقف وراء حراك طلاب جامعة كولومبيا. وهذا يقول إننا عشية مواجهة كبرى لن يتورّع صناع المال والسياسة والسلاح في أميركا من تحويلها الى مواجهة دمويّة، بكل التوحش الذي رأيناه في حرب غزة، فالحرب واحدة، والذعر واحد.