صفقة بلينكن حول غزة والتهدئة المستدامة؟
ناصر قنديل
تتعرّض قوى المقاومة لضغوط علنيّة شديدة لقبول نص الاتفاق المحسوب على مصر، بينما هو في الحقيقة مشروع يجب أن يحمل اسم صاحبه الأصليّ وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن. تعرف مصر نقاط الضعف فيه وتحاول مع الوفد المفاوض من المقاومة تحسين شروطه كما يقول المفاوضون الفلسطينيون. وصفقة بلينكن في التفاصيل الخاصة بتراجع قوات الاحتلال من مناطق من قطاع غزة، ودخول المساعدات إلى القطاع، أو عودة النازحين، او تبادل الأسرى، تمثل عرضاً قابلاً للتفاوض بالنسبة للمقاومة، التي تبدي مرونة عالية في مقاربة التفاصيل. وهذه العناوين التي تشكل جوهر موضوع صفقة بلينكن هي بالنسبة للمقاومة تفاصيل، وما تبحث عنه المقاومة في النص ولا تجده، هو التزام علني بأنه بعد نهاية مدة المراحل الثلاث لن تبقى قوات الاحتلال في شبر من غزة، وأن الحصار سوف يتم إنهاؤه عن غزة فلا تعود حركة الأفراد والبضائع خاضعة لتحكم قوات الاحتلال تقفل متى تشاء وتفتح متى تشاء وتحدّد المسموح والممنوع كما تشاء، وأن عملية إعادة الإعمار ستبدأ وفق التزامات واضحة مع نهاية هذه المراحل المرتبطة بالتبادل. والأهم أن الحرب انتهت هنا، وأن ترتيبات البيت الفلسطيني لكيفية الحكم والإدارة والمسار السياسي سوف تبدأ من هنا، وهي ما يحدّد مستقبل غزة بعد الحرب.
لا شيء من هذا كله في النص، فقط عبارات غامضة، عن وكالات أمميّة تعود ومساعدات تدخل وإعادة إعمار مسموحة، أما وقف الحرب فقد أشير اليه بعبارة يُراد منها نصب فخ للمقاومة، هو التهدئة المستدامة، أو الهدوء المستدام. وقد جاء النص حرفيا كما يلي: “إن مباحثات غير مباشرة ستبدأ بما لا يتجاوز اليوم الـ 16 من المرحلة الأولى من بدء سريان الهدنة، وبعد إطلاق سراح نصف المُحتجزين، للاتفاق على الترتيبات اللازمة لعودة الهدوء المستدام”. والمباحثات غير المباشرة التي ينص الاتفاق على أنها تبدأ للوصول الى اتفاق على ترتيبات الهدوء المستدام، تعني أن يحمل كل طرف تصوّره لهذه الترتيبات، وينطلق التفاوض من تصورين متقابلين. ومثلما أن تصور المقاومة واضح في طلبها لفك الحصار وإصرارها على انسحاب قوات الاحتلال، واعتبار شكل الحكم ومستقبل السلاح في غزة شأناً فلسطينياً خالصاً يقرّره الفلسطينيون، لا مانع من الالتزام بأنه تحت سقف منظمة التحرير الفلسطينية التي سوف تنجز وحدتها وتشرف على سائر مؤسسات السلطة من حكومة وأجهزة أمنية وانتخابات، ولكن هذا يتم ضمن إطار عربي، لا علاقة للاحتلال به. وبالمثل فإن تصور نتنياهو وحكومته لترتيبات الهدوء المستدام معروفة ومعلنة، وهي تتضمن التمسك بدور للاحتلال في صياغة شكل إدارة غزة بعد الحرب، والإصرار على نزع سلاح المقاومة، وترحيل قادة فصائلها المسلحة وخصوصاً القسام إلى خارج غزة، والتحكم بكل ما ومن يدخل الى غزة ويخرج منها. وخلاصة التفاوض بين التصورين ايضاً معروفة سلفا، وهي الفشل، بحيث يصبح الاتفاق إطاراً لهدنة جرى تمويهها بوهم نهاية الحرب.
المقاومة تقول بصراحة للوسطاء إنها غير مهتمة بالهدنة والتبادل خارج إطار اتفاق شامل، وإذا كانت الحرب هي ما سوف يلي الاتفاق فلماذا منح حكومة نتنياهو جائزة تحرير الأسرى، بدلاً من تحميلها مسؤولية التسبب بموتهم، وعلى الجانب الفلسطينيّ الذي يخصّ المقاومة او الذي يخص الشعب، الفارق ضئيل بين حرب بعد هدنة أو حرب بدونها، بل إن الفلسطينيين شعباً ومقاومة يفضلون استمرار الحرب على كذبة اتفاق تليه جولات حرب. وواضح أن الهدنة تحت كذبة إنهاء الحرب بتمسية الهدوء المستدام تستهدف منح إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن زخماً انتخابياً عبر نسبة النجاح بالإفراج عن الأسرى لما يسمّيه الضغوط على نتنياهو والمقاومة معاً. وكما يمنح هذا الاتفاق بايدن جائزة انتخابية فهو يمنح نتنياهو جائزة مماثلة كبطل تحرير الأسرى والعودة للحرب، ولا مانع لدى بايدن ونتنياهو من إطالة أمد الهدوء حتى ما بعد موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، وربما موعد الانتخابات المبكرة في الكيان، ليضمن بايدن ونتنياهو الفوز، ثم العودة للحرب.
المقاومة غير معنيّة بإفشال انتخابات بايدن ونتنياهو، لكنها بالتأكيد لن تقدّم تضحيات غالية قدمت في الحرب وقوداً لانتخابات كل منهما، لتعود إلى المربع الأول للحرب، وقد فقدت ورقة الأسرى، وثقة شعبها الذي سوف يسألها ما الفرق بين الهدنة التي سوف تقبل بها الآن، وتلك التي رفضتها قبل خمسة شهور، بعد نهاية الهدنة الأولى، ولماذا تركت شعبها يتكبّد كل هذه التضحيات ما دامت سوف تقبل بالهدنة. وسوف تخسر المقاومة وحدة صفها المجمع على شروط أولها إنهاء الحرب مقابل الأسرى بكل وضوح، وإذا استمرّت الحرب فليكن بايدن ونتنياهو مسؤولان عن موت الأسرى، بكل وضوح أيضاً. والمقاومة إذا قبلت سوف يسألها حلفاؤها الذين واصلوا القتال على جبهات الإسناد ورفضوا كل إغراءات العروض المنفصلة لتهدئة جبهاتهم، خصوصاً في لبنان واليمن، لماذا واصلنا القتال وتحملنا مزيداً من التضحيات منذ كانون الأول 2023، عندما كانت الهدنة مطروحة، ما دمتم سوف تقبلونها؟
الواضح رغم كل الترويج لقرب التوصل الى اتفاق، أن نتنياهو متمسك علناً برفض الالتزام بأن الحرب انتهت مع أي اتفاق يعيد مصير إدارة غزة وسلاحها شأناً فلسطينياً. وهو يقول لن تكون غزة حماستان ولا فتحستان، والعودة للحرب حتميّة بصفقة ومن دون صفقة. كما هو واضح ان المقاومة مهما كان حرصها على حسن علاقتها بالوسيطين المصري والقطري، لا تستطيع مجاراتهما في تلبية الطلبات الأميركية غير المنفصلة عن الحسابات والمصالح الإسرائيلية.