دول سايكس ـ بيكو وأميركا مسؤولتان عن نكبة النازحين
د. عصام نعمان*
النازحون أزمة عاتية تعانيها معظم دول المشرق العربي. هي في الأساس من صنع دول مخطط سايكس ـ بيكو (بريطانيا وفرنسا) إلاّ أنّ دولاً أخرى أبرزها الولايات المتحدة شاركت في صنعها.
مخطط سايكس ـ بيكو (1916) انطوى في البدء على محورين سياسي وديموغرافي. المحور السياسي قضى بتقسيم ميراث السلطنة العثمانية المنهزمة في الحرب العالمية الأولى 1914- 1918والمنسحبة من بلاد الشام وبلاد الرافدين والحجاز واليمن الى إقامة دول لبنان وسورية والعراق والأردن والحجاز، وبانسحابها من اليمن الساحلي مكّنت اليمن السعيد باستقلاله من ضمّه الى دولته.
فلسطين احتلها الاستعمار البريطاني الذي انتدب نفسه على العراق والأردن أيضاً. فرنسا انتدبت نفسها على لبنان وسورية. وكانت بريطانيا قد أعلنت وعد بلفور الذي منحت بموجبه اليهود «الحق» بوطن قومي لهم في فلسطين، ثم ما لبثت أن انسحبت من فلسطين سنة 1948 لتمكين اليهود الصهاينة من إقامة دولة لهم فيها.
المحور الديمغرافي انطوى على سياسات وخطط قضت بتقسيم كلٍّ من لبنان وسورية والعراق الى مناطق ذات طابع طائفي ومذهبي غالب.
المثير والمقلق أنّ كِلا الحكمين الفرنسي في لبنان وسورية والبريطاني في العراق والأردن وفلسطين كانا يستخدمان القبائل والعشائر والطوائف والتجمّعات المحليّة الكائنة في مكان سيطرتهما الواحدة ضدّ الأخرى كي يوطدا سلطتهما ونفوذهما، الأمر الذي عمّق العصبيات المحلية والطائفية والمذهبيّة وتسبّب في نزوح بعض الأقليات من مناطق إلى أخرى كانت الغالبية فيها من طائفة النازحين.
غير أنّ الطامة الكبرى حدثت بعد ذلك في كلٍّ من العراق وسورية. ففي العراق، أعقب الغزو الأميركي لإسقاط نظام صدام حسين سنة 2003 عزفٌ شديد على الأوتار الطائفية والمذهبية ما تسبّب بنزوح جماعات كبيرة من قبائل ومذاهب متعددة من منطقة إلى أخرى. الأمر نفسه حدث في سورية في أعقاب التدخل الأميركي سنة 2011 حيث جرى استجلاب مجموعات إسلاموية من الخارج متحالفة مع شبيهات لها في الداخل لمحاربة الحكومة المركزيّة في دمشق، كما لمحاربة مجموعات أخرى ذات طابع سياسي أو مذهبي مغاير تسبّب بحرب أهلية دامت أكثر من سبع سنوات الى ان استعادت الحكومة المركزية سيطرتها على معظم المناطق التي كانت مسرحاً لاشتباكات عسكرية طويلة خلّفت أضراراً بشرية ومادية كثيرة وباهظة.
في لبنان، اندلعت اضطرابات دامية خلّفت أضراراً من نوعين: الأول مصدره اصطدامات طائفية سنة 1975 تطورت الى حرب أهلية لم تتوقف إلّا بعد إقرار اتفاق الوفاق الوطني في الطائف (السعودية) سنة 1989. الثاني مصدره نزوح جماعات من المسيحيين والمسلمين من مناطق كانوا يشكّلون فيها أقليّة الى أخرى يشكّلون فيها أكثرية.
زاد الطين بلّة، أنّ الحرب الأهلية في سورية تسبّبت بتردّي الأوضاع الاقتصادية والبطالة، وبالتالي الى هجرة لا أقلّ من ثلاثة ملايين سوري الى لبنان ما تسبّب بتعميق الأزمة الاقتصادية والمعيشية المستشرية أصلاً.
في فلسطين، لم تتورّع «إسرائيل» بدعمٍ من الولايات المتحدة عن تدمير أقسامٍ واسعة من المدن والبلدات في قطاع غزة وتهجير سكانها الى جنوب القطاع والعمل بلا هوادة لتهجيرهم الى صحراء سيناء المصرية، كما العمل بالوتيرة نفسها لتهجير سكان الضفة الغربية الى الأردن.
يتّضح من مجمل ما تقدّم بيانه أنّ لبريطانيا وفرنسا، كما للولايات المتحدة، إسهاماً قديماً وواسعاً وعنيفاً في أزمة النازحين التي يشكو منها لبنان وفلسطين خصوصاً، وسائر دول المشرق العربي عموماً، الأمر الذي يستوجب تحميلها مسؤولية الأضرار التي لحقت وتلحق بالنازحين في الدول التي نزحوا منها أو اليها.
من المفارقات المضحكة المبكية انّ إحدى دول سايكس ـ بيكو، فرنسا، أخذت تشكو من مخاطر نزوح النازحين السوريين إليها فتظلّمت أخيراً الى الاتحاد الأوروبي الذي قام بإيفاد رئيسة المفوضية الأوروبية اورسولا فون دورلاين برفقة الرئيس القبرصيّ نبكوس خريستو دوليسيدس الى لبنان بغية الضغط على حكومته لتشديد تدابيرها الهادفة إلى منع النازحين السوريين من التوجّه بحراً الى قبرص وفرنسا وسائر الدول الأوروبية المتوسطية. غير أنّ المسؤولة الأوروبية لم تنسَ انّ ما تطلبه من الحكومة اللبنانية لا يمكن أن يؤتي ثماره بلا ثمن، فكان أن أعلنت اعتزام الاتحاد الأوروبي دعم لبنان بمبلغ مليار يورو على 4 سنوات كي توزّع على «دعم الخدمات الأساسية للفئات الأكثر ضعفاً بمن فيهم اللاجئون والمهجرون داخلياً والمجتمعات المضيفة، والمساندة في الإصلاحات التي يطلبها صندوق النقد الدولي، ودعم إدارة الحدود والهجرة، وتعزيز الدعم المقدّم للجيش اللبناني».
هذه المساعدات الهزيلة اعتبرتها الدوائر الرسمية كما القوى الوطنية في لبنان مجرد رشوة لضمان السكوت عن سياسة أوروبا التي تدعمها أميركا والقاضية بالضغط على لبنان لإبقاء النازحين السوريين في ربوعه، والعمل على توطينهم فيها للحؤول دون نزوحهم الى دول أوروبا والتسبّب بازدياد منافسة الأيدي العاملة الأوروبية.
هذا في لبنان وسورية، أما في فلسطين فقد انبرت الولايات المتحدة الى «مساعدة» النازحين بإلقاء حِزَم الأغذية من الجو على شاطئ غزة، حيث يقع بعضها على رؤوس الفتيان المتنافسين على تلقيها فيُقتل بعضهم وتقوم القوات الإسرائيلية بحصد بعضهم الآخر، بعدما وجدت في تجمّعهم على الشاطئ لتلقي رزم الغذاء مصيدةً مناسبة لقتل الكثير منهم.
إنّ مشكلة النازحين في أيّ دولة عربية مشرقيّة اليوم ليست محلية بل هي جزء من مشكلة عربية عامة، وعلى الحكومات العربية المتضرّرة من عمليات النزوح المتواصلة ان تتفق في ما بينها على سياسة تقوم بموجبها بتحميل دول فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة مسؤولية الأضرار البشرية والمادية الناجمة عنها، وأن تقوم تالياً بصرف التعويضات المتوجبة في هذا السبيل. كما يجب الضغط على حكومات أوروبا وأميركا كي تضغط بدورها على الأمم المتحدة ومؤسساتها ذات الصلة كي تعدّل شروط المساعدات الماليّة التي تدفعها للنازحين السوريين في لبنان بحيث يكون تسديدها إليهم مشروطاً بعودتهم الى الإقامة في مناطق سكنهم الأصليّة في سورية. ذلك أنّ تسديدها في لبنان يشجّعهم على البقاء والتوطّن فيه، ويخدم سياسة دول أوروبا وأميركا الساعية الى توطينهم في لبنان وإيجاد ميزان ديموغرافي جديد في البلاد من شأنه التسبّب بنزاعات بين قيادات الطوائف المتصارعة على السلطة والنفوذ من جهة، ومن جهة أخرى بدعم نفوذ بعض القيادات التي تمانع باعتماد سياسة توطين النازحين السوريين لكونهم من غالبيّة مذهبيّة معينة.
الحقيقة أنّ المنظومات الحاكمة في معظم عالم العرب لا يُرتجى منها مبادرة فاعلة. لذا يجدر بالقوى الوطنية والنهضوية الحيّة المبادرة للضغط عليها كي تتوافق وتتضامن بغية الضغط على دول أوروبا وأميركا والأمم المتحدة لتسهيل إعادة النازحين الى ديارهم من جهة، ومن جهة أخرى بغية إقامة صندوق عربي للإغاثة والرعاية الاجتماعية تموّله الدول العربية المتضررة من النزوح تصديراً واستقبالاً والدول النفطية الغنية كي يسهم بدورٍ في عملية إعادة موضعة النازحين في ديارهم.
نعم، على دول سايكس ـ بيكو وأميركا أن تعوّض النازحين العرب في ديارهم المشرقية الأضرار التي ألحقتها بهم نتيجة سياستها الاستعمارية البغيضة.
*نائب ووزير سابق