استبدال “فن الممكن” بتحويل غير الممكن إلى ممكن
د. حسن أحمد حسن*
لم يعد الكلام مجدياً، ولا التحليلات السياسة والاستراتيجية والدراسات المعمّقة ذات مردود يدفع إلى التفاؤل بإمكانية منع قتلة الأنبياء وأعداء الإنسانية من الاستمرار بحرب الإبادة الجماعية التي تمارسها الصهيونية منذ ما قبل 1948 وحتى اللحظة، وما يميّز هذا الفصل الجديد من فصول التوحش الإسرائيلي أنه حطّم كلّ السقوف التي كانت محتملة أو قد تخطر على الذهن، وهذا ليس دليلاً على أنّ حكومة نتنياهو أكثر إجراماً وصفاقة مما سبقها من الحكومات الصهيونية، كما أنه لا يعني أنّ الإدارات الأميركية السابقة كانت أقلّ نوعية عما هي عليه اليوم، فجميع الإدارات الأميركية، جمهورية كانت أم ديمقراطية ترعى الكيان اللقيط وتدعمه منذ انتقل المسخ المستولد من الحضن الإنكليزي الخبيث والقذر إلى حضن قتلة الهنود الحمر السكان الأصليين للجزء الشمالي من القارة الأميركية الذي أصبح يُعرف بالولايات المتحدة الأميركية، ولا تزال قضية دعم الكيان الغاصب وتبنّيه تحتلّ المراتب المتقدة في الإستراتيجية الأميركية وحرصها على إمداده بكل ما يمكّنه من الاستمرار بإجرامه وتوحشه، مع ضمان مصادرة الرأي العام العالمي والقرار الدولي بشتى السبل والأساليب، بدءاً بالقمع وانتهاء بالاغتيال السياسي أو المادي للأفراد والدول والمجتمعات من دون أن يرفّ رمش لأي من المسؤولين الأميركيين إلا بعد التقاعد، حيث تهبط ملائكة الرحمة زرافات ووحدانا على أولئك فيبهرون المتابعين برقيّ المشاعر الإنسانية ونبل المشاعر والتعاطف مع المقهورين والمظلومين، وهذا قمة العهر السياسي والأخلاقي والإنساني، والسؤال المشروع: ألم يكن أولئك جزءاً من تعميم الكوارث والولايات التي تعاني منها البشرية ولا تزال جراء عقلية الكاوبوي الذي يستمتع باصطياد فرائسه كبيرة كانت أم صغيرة؟
التنظير الفكري والتقعير الأكاديمي للدراسات التحليلية شيء، وما يجري أمام بصر العالم وسمعه شيء آخر، فما لا يثمر نتائج ملموسة يبقى يدور في فلك الترف النظري المطلوب التعايش معه بما يتمّ تسويقه على أنه السقف الأعلى للممكن، مع التذكير الدائم بأنّ السياسة في جوهرها تندرج ضمن “فن الممكن”، وهذا بحدّ ذاته أقذر أداة لمصادرة إرادة الشعوب، فالإبداع السياسي لا يكمن في الاكتفاء بالتعامل الحذر مع “الممكن”، بل في تحويل “غير الممكن إلى ممكن” وهذه ميزة ذاتية تفرّد بها أنصار نهج المقاومة ثقافةً وعقيدةً وأنموذجَ حياة، وقد تجلى ذلك بوضوح في الفصول المتعددة والذرى العالية التي تمّ الوصول إليها برفض الممكن “الموضوعي” لتدني سقفه، والانطلاق بثقة إلى تطويع غير الممكن وتحويله إلى واقع قائم لا يستطيع أنصار القوة نكرانه، أو نفي وجوده، وهل طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول في العام المنصرم إلا التجسيد العملي لحقيقة ما أقول؟ وكذلك الأمر في الردّ الإيراني الحازم ومضبوط الإيقاع في عملية الوعد الصادق، وإرغام تل أبيب وكلّ من معها على التعايش مع ظاهرة العيون الجاحظة والأفواه الفارغة والوجوه التي تعلوها الدهشة والصدمة، وقبل هذا وذاك ألمْ يحوّل حزب الله “غير الممكن” إلى ممكن في اليوم التالي للحرب على غزة ساحة المواجهة وإشعال الجبهة على امتداد الحدود من رأس الناقورة إلى أطراف جبل الشيخ؟ وأية تسمية تليق بالمتغيّر الجيوبولتيكي اليمني أقلّ من أنه تجاوز حدود كلّ ما هو معروف عن “الممكن” الذي تحرص واشنطن على تغليفه بإطار “العجز الموضوعي” وما يسمّونه “واقعية سياسية” بإطار لا يتجاوز حدود الإذعان وقبول الكرام بما يتبقى من فتات على موائد اللئام؟ وفي الوقت نفسه أليس أحد تجليات “الممكن المفروض” ما أقدم عليه الجيش الصهيوني من اقتحام وحشي لمعبر رفح، ورفع علم الاحتلال جهاراً نهاراً عياناً بياناً؟ فهل اتفاقيات الذلة والاستسلام التي أسموها “سلاماً” تبيح لسلطات تل أبيب ذلك؟ أو تمنع سلطات القاهرة من التعامل بما يرتقي إلى مستوى الاعتداء على الكرامة المصرية، ومصر هذه كانت وتبقى الدولة العربية الأقوى، والأمل الذي يتطلع إليه الحالمون باستعادة ألق الصوت المصري المصمّم على صيانة الكرامة المصرية والعربيةـ وليس الصوت التبريري الذي يجمّل جريمة الكيان، ويمزج المخدّر الآني في مياه الشرب ليسهل ابتلاع مرارة الخنوع والخضوع.
من حق المتابع العادي أن يتساءل لماذا سارع الإعلام الأميركي والإسرائيلي للحديث عن اتصال هاتفي بادر إليه بايدن مع القاتل نتنياهو واستمر نصف ساعة بعد ساعات قليلة من اقتحام معبر رفح ومحاولات التوغل من الاتجاه الشرقي بعد إعلان قيادة المقاومة الفلسطينية موافقتها على الورقة المقدمة لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى؟ أليس الاتصال في مثل هذا الظرف القائم المستجدّ مباركة وتشجيعاً للاستمرار بحرب إبادة الغزاويين وفرض التهجير القسري على الجميع؟ وهل كان البيت الأبيض يسارع للإعلان عن الاتصال لو أنه يقيم وزناً للرأي العام الأميركي الذي استفاق بعضه، وبدأ يستعيد عافيته، ويبلسم مناطق الكيّ التي شملتها فصول الحرب على الوعي وطرائق التفكير منذ عقود؟ ولعلّ السؤال الأهمّ الذي لا يجوز تناسيه ولا إغفاله: هل كان لحكومة نتنياهو تستمرّ في هذا التوحش والإجرام الذي لم تشهد له البشرية مثيلاً عبر تاريخها الطويل لو أنّ تل أبيب تخشى غضبة العرب والمسلمين وأنصار الحق والسلام وإنسانية الإنسان في العالم أجمع؟
يبدو أنّ مجلس القتل والإجرام برئاسة نتنياهو قد أخطأ التقديرات، وفهم رسالة المقاومة الفلسطينية وموافقتها على بنود الاتفاق بشكل انفعالي ورغبوي، وحَسِبَ أولئك أنّ الموافقة تعني الإقرار بالتعب وتلاشي الأمل أو اضمحلاله، فرفعوا سقف العدوانية والتهديد بتنفيذ اقتحام رفح بغض النظر عن إمكانية الوصل إلى اتفاق أم لا، انطلاقاً من أنّ المشكلة الكبرى لدى واشنطن وتل أبيب تتجاوز قدرة الجانبين على التعامل مع الواقع الجديد الذي فرضته المقاومة، والذي يشكل تهديداً عملياً هو الأخطر في وجه التفرّد الأميركي بالقرار الدولي، كما يشكل التهديد الوجودي الأوضح والأهمّ للكيان الإسرائيلي برمته، ولذلك يصبح الدور الأهمّ اليوم لبقية أطراف محور المقاومة، والمتوقع والمأمول قد يكون أكبر مما قد يتوارد إلى الذهن بشكل عفوي، ولطالما عوّدت المقاومة أصحاب الرؤوس الحامية على خطأ حساباتهم، وفشل سياساتهم، وعلى أولئك أن يتذكروا دائماً أنّ المقاومة لا تطلق التهديد والوعيد، بل تمارس حقها في الدفاع عن الحياة والوجود، وهو حق مشروع تقره القوانين الدولية وميثاق هيئة الأمم المتحدة، ومن حق الكتَّاب والمثقفين الذين ينتمون بالفطرة لمحور المقاومة أن يضعوا في حساباتهم أنّ الأمور قد تتدحرج فعلاً نحو الاشتعال الأكبر، ومن غير المعقول أن تترك غزة العزة لأنياب الوحش الصهيوني الذي لا يشبع من القتل ولا يرتوي بأنهار من الدم المسفوك، وطالما أنّ الأفق مسدود جراء التبني الأميركي لحرب الإبادة ضدّ الوجود الفلسطيني أولاً، ولاحقاً ضدّ كلّ من يقول لا للإجرام الإسرائيلي، وكيلا يصبح هذا العنوان إطاراً لما يسمونه: “فن الممكن” على مفاصل صنع القرار في حكومة الظل العالمية، أو ما يسمّونه الحكومة العميقة أن يتيقنوا أنه قد لا يطول الوقت حتى يجد العالم نفسه أمام واقع جديد عنوانه: إعادة ضبط الساعة الكونية على توقيت غزة المقاومة، ولن يفيد فرسان الهيكل قبعة الكاوبوي، ولا سمّ الأفعى الإنكليزية، كما لن يقدم انبطاح المطبلين والمزمرين المسبّحين بحمد واشنطن وتل أبيب أيّ جديد، فالعمالة جزء تجري في دماء حملتها، وخيانة القضية تتوارث جينياً، وكذلك الأمر على الجهة المقابلة حيث الإرادة والعزيمة والإيمان واليقين بالقدرة على تكسير الأنياب السامة والمخالب الشريرة، وردّ الحجر من حيث أتت، والبادئ أظلم.
عندما يشتعل البر والبحر، وتحجب الشمس جراء انسداد الأفق والأجواء، وتغلق المنطقة من باب المندب إلى خليج عدن إلى مضيق هرمز وصولاً إلى البحر المتوسط عند ذلك يكون تبلور اللوحة الجديدة من سياسة تعني تحويل غير الممكن إلى ممكن…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية