دوافع وأهداف ودلالات احتجاجات الجامعات الأميركية
} أحمد عويدات
يبدو أنّ تمثال الحرية بدأ ينطق بحقيقة الحق الفلسطيني، ويبدو أنّ هتاف الطيار الأميركي شهيد الإنسانية آرون بوشنل Free Free Palestine، يتردّد صداه بين جموع طلاب وأساتذة الجامعات الأميركية. إنّ ما يحدث فعلاً في جامعة كولومبيا وتكساس وايموري وميتشغان وجورج واشنطن وهارفارد، ومعهدي شيكاغو وماساشوستس ونحو أكثر من خمسين من جامعات الولايات المتحدة الأكثر شهرةً وعراقةً في العالم فاق التوقعات، وصدم الإدارة الأميركية، ونتنياهو الذي وصفها بأنها معاداة للسامية؛ لما لهذه الاحتجاجات من تأثيرٍ على الرأي العام العالمي والشارع الأميركي. هذه الاحتجاجات المتصاعدة اتخذت أشكالاً عديدة وحددت أهدافاً لحراكها، وأحدثت واقعاً جديداً في الولايات المتحدة الأميركية، يرسم ملامحه الشباب الأميركي وأكاديميو الجامعات.
لقد اتسعت هذه الاحتجاجات وبعضها تحوّل إلى اعتصاماتٍ داخل حرم الجامعات، والبعض الآخر شهد اعتداءاتٍ على تجمعاتهم وخيمهم، من قبل عناصر صهيونية متطرفة من مؤيدي الحرب العدوانية على غزة، والذين استخدموا العصي والقضبان الحديدية ورذاذ الفلفل، والبعض الآخر شهد مواجهات حاولت الشرطة الفيدرالية خلالها فضّ الاعتصامات وإخلاء المباني التي تحصن بها المحتجون باستخدام القوة المفرطة.
ومن نافل القول، إنّ هذا الحراك يأتي أولاً احتجاجاً على استمرار الدعم العسكري من إدارة بايدن لدولة الكيان على حساب الشعب الأميركي. ثانياً، انتفض هؤلاء الطلبة ومعهم أساتذتهم الذين زرعوا فيهم قيم الحياة الأخلاقية والإنسانية، وقيم العدالة والحرية، مدفوعين بمشاهد الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والتدمير الممنهج لكلّ جوانب الحياة في غزة؛ التي أدمت قلوبهم، وأيقظت مشاعرهم وضمائرهم، بعد موت الإحساس والضمير العالمي المتزيّن بحقوق الإنسان الزائفة، التي لم يُشاهد منها إلا حق «إسرائيل» المزعوم في الدفاع عن النفس. أما ثالث هذه الدوافع هو؛ السلسلة من التحقيقات التي طالت بعض مديري الجامعات والهيئة التدريسية، وفصل بعضهم على خلفية مواقفهم من الحرب، ودعمهم للحق الفلسطيني هذه الإجراءات التي تثبت كذب الديمقراطية الغربية وكسر حرية التعبير. أما آخر هذه الدوافع كان التجاهل المتعمّد من إدارة بايدن لمطالب هذه النخبة الأكاديمية. هذا السلوك الذي يُعدُّ جزءاً من سياسة هذه الإدارة الدائمة التماهي مع المصالح الإسرائيلية، بل المشاركة في الحرب الهمجية التي تزهق أرواح آلاف البريئين من أطفال ونساء وتدمر كلّ شيء. هذه السياسة التي يعارضها نحو 71% من الأميركيين.
لقد صدح صوت هؤلاء غير آبهين بما ستؤول إليه نتائج احتجاجاتهم واعتصاماتهم من بطش وعنف الشرطة والحرس الوطني، ومن عقوبة الفصل والطرد التي تنتظرهم. لم يثنهم تهديد رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون، ورموز الدولة العميقة واللوبي الصهيوني باتهامهم بأنهم معادون للسامية، وأن تحركهم يشكل تهديداً لأمن الطلبة اليهود؛ والذين على العكس تماماً، كانوا جزءاً مهماً من حراكهم السلمي.
لقد أدرك المحتجون، ومعهم أحرار العالم أنّ يافطة «معاداة السامية» التي دأب الصهاينة الإسرائيليون والأميركيون، أو من لفّ لفهم رفعها في مواجهة أي حراك شعبي، أوإدانة من أي طرف لانتهاكات وممارسات وجرائم قادة الكيان؛ إنما هي تبريرٌ غير منطقي وبمثابة الفزّاعة ضدّ مؤيدي ومناصري الشعب الفلسطيني وحقوقه، وتغطية على جرائمهم تحت مُسمّى «الدفاع عن النفس».
أمام هذه الاتهامات، وبمزيدٍ من التحدي والإصرار، تحوّلت معظم احتجاجاتهم إلى اعتصاماتٍ مفتوحةٍ طالبوا من خلالها وبشكلٍ واضحٍ وصريحٍ بإيقاف فوري للحرب على غزة، ووقف المساعدات العسكرية لـ «إسرائيل»، وسحب استثمارات الجامعات الأميركية من مورّدي الأسلحة والشركات الإسرائيلية، أيضاً قطع العلاقات الأكاديمية مع الجامعات الإسرائيلية، والتراجع عن الإجراءات التأديبية التي اتُّخذت بحق الطلاب والأساتذة المحتجين، وإطلاق سراح المعتقلين الذين وصلت أعدادهم إلى أكثر من 2200 معتقل.
من جانبٍ آخر، تعكس هذه المطالب وما ترافق معها من خطوات، مدى جديّة هذا الحراك ومنهجيته وآلياته ودوافعه، ومدى التزام قادته برسالة وقيم ومبادىء الجامعات التي ينتمون إليها.
من ناحيةٍ أخرى، لقد صدمت قوة هذه الاحتجاجات المتصاعدة الإدارة الأميركية وقادة الكيان، وصانعي القرار والمشرّعين لاتساعها وشموليتها واجتذابها لأطياف مختلفة من المجتمع الأميركي وهيئاته المدنية من مختلف الديانات والطوائف والجاليات والمنظمات، ولعلّ أبرزها كان مشاركة مجموعات يهودية عديدة، مثل «الصوت اليهودي من أجل السلام»، ومنظمة «إن لم يكن الآن»، ومجموعة «طلاب من أجل العدالة في فلسطين».
وفي السياق ذاته، من البديهي أن تشكل هذه النخبة من الشباب، وهذا التنوع البشري في الحراك تهديداً مباشراً لفرص إعادة انتخاب بايدن الذي يحاول عبثاً السير بخطين متوازيين؛ بين الدعم اللامحدود واللامشروط لـ «إسرائيل»، والعزف على وتر الانتخابات وإرضاء الشارع الأميركي الغاضب، وكسب أصوات اليهود. كما يعكس هذا أيضاً تآكل شعبية بايدن، كما أشارت استطلاعات الرأي الانتخابية إلى ذلك.
لقد وضعت هذه الاحتجاجات الإدارة الأميركية في مأزقٍ حقيقي؛ بين المحافظة على حرية التعبير وحق التظاهر وصون الحريات، وبين انتهاك وقمع هذا الحراك؛ خشية تصاعده أكثر فأكثر، وتأثيره على مجمل فئات الشعب الأخرى، ووقوفها إلى جانب الحق الفلسطيني، وبالتالي إسقاط الرواية الصهيونيّة الزائفة، وتعرية موقف الإدارة البايدنيّة. وما شيطنة هذه الاحتجاجات من قبل هذه الإدارة باتهام الطلاب بأنهم ينتهكون السلوك الطلابي؛ إلا محاولةً للخروج من هذا المأزق. لكن ما صرحت به فرانشيسكا البانيز مقررة الأمم المتحدة في فلسطين لخص الحقيقة بقولها: «إني أُصبتُ بالدهشة، أمام العنف الذي تمارسه الشرطة الأميركية ضد متظاهرين منددين بالإبادة الجماعية، التي ترتكبها دولة أجنبية أخرى».
لقد بات واضحاً أنّ المظاهرات التي اجتاحت كافة الولايات الأميركية طيلة السبعة أشهر، وما تبعها من هذه الاحتجاجات والاعتصامات تحمل دلالاتٍ عديدة.
ـ أولاً، تمثّل تغييراً اجتماعياً تقوده النخبة من الشباب الأكاديمي، بعدما كان مقتصراً على طبقة الأثرياء وشخصيات معينة.
ـ ثانيا، تعكس تغييراً جوهرياً في البنية الفكرية والوعي الشبابي الأميركي.
ـ ثالثاً، تحمل فهماً جديداً للواقع والأحداث المؤثرة في مكانة بلدهم.
ـ رابعاً، تؤكد نزوع الشباب إلى قول كلمتهم في النظام السياسي وتوجهه، بعدما كانوا منصرفين عنه.
ـ خامساً، تنامي دورهم في رسم ملامح المشهد العام في الولايات المتحدة، باعتبارهم نخبة المجتمع وقادة المستقبل.
ـ سادساً، تطوّر وعيهم الإجتماعي والإثني؛ وذلك بتجاوزهم لكلّ حملات التفرقة والعنصرية والتمييز العرقي والديني التي يحاول الساسة الكبار واللوبي الصهيوني بثها في صفوفهم تحت عُصيّ الإرهاب ومعاداة السامية.
ـ سابعاً، أكد هذا الحراك الهادف والممنهج أن الجامعات كانت ولا تزال ليس فقط منابر علم وأبحاث ومعرفة، بل قواعد للتغيير الاجتماعي والسياسي، كما شهدته سابقاً الكثير من البلدان، عندما انطلقت شرارة التغيير والثورة من الجامعة وعلى يد الطلبة الذين يصنعون التاريخ، ولعلّ ما حدث في براغ من ثورة مخملية أسقطت النظام الشمولي، او ما فعله طلاب جنوب أفريقيا حينما أسقطوا الأبارتيد، أو ما فعلته ثورة الطلاب الإيرانيين لإسقاط حكم الشاه، كلّ هذه خير أمثلة على تلك الحقيقة.
ـ وفي الدلالة الأخيرة، كشف حراكهم زيف الديمقراطية الغربية، وحقوق الإنسان المعطّلة؛ التي طالما تغنّى بها «العالم الحر»، من خلال ما تعرّض له المحتجين من اعتقال وتنكيل وتهديد، وكمّ أفواه، وفصل وطرد من الجامعة.
عطفاً على ذي بدء، لقد أظهرت ردود الفعل لقوات الشرطة الفيدرالية والحرس الوطني والجماعات الدينية المتصهينة المتطرفة ضدّ المحتجين، ومن خلال ما تناقلته وسائل الإعلام، أنّ الإدارة الأميركية كسلطة تماثل إلى حدّ كبير سلطات دول العالم الثالث الديكتاتورية القمعية. وما إلغاء حفلات التخرج لهذا العام، إلا خشية إتساع هذه الاحتجاجات، وقمعاً لإحتفاء الطلبة بتخرجهم.
ويبقى السؤال هنا، هل ستنتصر خيم اعتصامات المحتجين وهتافاتهم على هراوات الحرس الوطني الأميركي واعتداءات المتصهينين؟ وهل سينجح هذا الحراك في إيقاف الحرب في غزة كما فعلها حراك 1968 إبان الحرب الفيتنامية خاصةً أن هناك أنباء عن إيقاف تقديم دفعة من الأسلحة الأميركية لـ «إسرائيل»؟
في نهاية المطاف، إنّ الانتصار للحق والإنسانية لا يعرف هويّة بعينها، إنها صحوة الضمير وتلامس المشاعر، والعدوى التضامنية التي انتقلت من جامعات أنديانا وايموري ونورث ايستيرن وكولومبيا وايمرسون وهارفارد وجورج واشنطن وتكساس ومعهد ماساشوستس وغيرها من جامعات العراقة. هذه العدوى التضامنية مع غزة وشعب فلسطين انتقلت إلى جامعات اسبانيا وألمانيا وإيرلندا وفرنسا وبريطانيا وكندا وتركيا واستراليا ونيوزلندا، وانضمّت مؤخراً جامعات هولندا وبلجيكا واسكتلندا والنمسا، لكن الجامعات العربية ـ للأسف ـ ما زالت محصنةً ضد هذه العدوى. وهنا لا بد لنا من التذكير بما قاله الإمام علي بن أبي طالب «المحايدون هم أناس لم ينصروا الباطل، ولكنهم خذلوا الحق».
[email protected]