مقالات وآراء

البحر الأحمر: من منطقة آمنة إلى ساحة مواجهة خطرة

‭}‬ د. منذر سليمان وجعفر الجعفري
بعد عناد منهجي طويل لتلافي التطورات المتسارعة في منطقة البحر الأحمر وامتداداتها إلى ساحات أخرى، أقرّت المؤسسة الحاكمة الأميركية بأن المنطقة «تشهد أهمّ التحولات السياسية خلال جيل واحد»، واستدركت تعقيباً على نجاح اليمن في إنجاز 3 مراحل مواجهة، كما جاء في تصريح يمني رسمي، بأن «هناك نموذجاً جيوسياسياً جديداً آخذاً في الظهور».
وأوضحت دراسة صدرت حديثاً أن المنطقة مرشحة لجميع الاحتمالات في ظل استمرار الحرب، «والمخاطر الاستراتيجية لهذا التطور أصبحت واضحة منذ كانون الثاني/ يناير 2024 وسط تصاعد التوترات الإقليمية بشأن الحرب في غزة»، لمبادرة اليمن «الاستمرار في منعِ الملاحة الإسرائيلية أوِ المتجهة إلى موانئ فلسطين المحتلة في البحرينِ الأحمر والعربيّ»، بحسب البيان المعلن، وشلّ حركة التجارة العالمية. وقد بات اليمن يعدّ كل السفن الأميركية والبريطانية ضمن أهدافه العسكرية (دراسة «اضطراب في البحر الأحمر»، أصدرها معهد السلام الأميركي، ربيع 2024).
أثبتت الحقائق المتسارعة ارتفاع الكلفة المادية التي تتكبّدها واشنطن وحلفاؤها من أجل تكريس «هيمنة تقليدية» متوارثة على البحار والموانئ الدولية الحيوية. جاء إسقاط القوات اليمنية درة التاج في سلاح الطيران المُسيّر، MQ-9 Reaper، التي تبلغ كلفة الواحدة نحو 30 مليون دولار، بمنزلة هزّة لا تزال ارتداداتها تتوالى، فضلاً عن الكلفة الأعلى لإطلاق أميركا صواريخ كروز متطورة من البحر لاعتراض الصواريخ اليمنية.
الإطلالة على وضعية الترسانة البحرية، لأميركا وحلفائها الأوروبيين، المنتشرة في مواجهة اليمن تشير بقوة إلى تردّي أوضاع طواقمها التي تعاني الإرهاق من طول مدة مرابطتها التي تجاوزت بضعة أشهر، فضلاً عن احتدام حالات إطلاق النار ضدها.
من الدلائل البارزة في هذا الشأن قرار البنتاغون سحب حاملة الطائرات الضخمة «آيزنهاور» والسفن والفرقاطات المرافقة لها من البحر الأحمر عقب مكوثها في المنطقة أكثر من 8 أشهر، وساد القلق من عدم قدرة المجموعة المتكاملة على التصدي لحرب غير معلومة المدى مع اليمن وربما إيران. وصدرت الأوامر إلى المجموعة بالعودة إلى قواعدها الأميركية وإجراء أعمال الصيانة المطلوبة، وهي ترسو حالياً في أحد الموانئ اليونانية.
لا شك في أنّ هناك تعتيماً وإخفاءً لحجم الخسائر البشرية. ومن المرجّح تعرّض القوات الأميركية والبريطانية لخسائر في صفوفهما نتيجة دقة الإصابات من اليمن على السفن والمدمرات الحربية التي كانت مرابطة هناك، وإغراق سفينة واحدة على الأقل.
وللدلالة على ذلك، صرّح نائب قائد القيادة المركزية الأميركية براد كوبر أن تحديات البحر الأحمر تعدّ «أكبر معركة بحرية للقوات الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية» (وكالات، 9 شباط/ فبراير 2024).
طبيعة الردّ الأميركي على اليمن، تقليدياً كان أو غيره، وخصوصاً أن منصّات إطلاق الصواريخ اليمنية لا تعادل كلفة الأسلحة المعادية، ستكون مكلفة أيضاً.
وفي هذا السياق يبرز الهدف الأعلى لواشنطن في الإقليم في المرحلة الحالية، والمتمثل بـ «احتواء إيران»، وأي تصعيد بين الطرفين يجب أن يأخذ بعين الاعتبار اقتراب الانتخابات الرئاسية، فالرئيس بايدن لا يزال منخرطاً بالوكالة بقوة في مواجهة روسيا، وكذلك في حربه على غزة.
إذن، التهديدات العسكرية الأميركية «التقليدية» أضحت تضغط بقوة على انحسار مروحة الخيارات المتاحة أمام الإدارة الأميركية في هذا الظرف بالتحديد.
شهدت مرحلة الصدام بالوكالة بين واشنطن وطهران حرص الطرفين على عدم الانزلاق إلى توسيع نطاق الحرب وتحوّلها إلى حرب واسعة تشمل الإقليم كله.
وساد «العُرف» إلى ما قبل استهداف إيران قواعد عسكرية حيوية في فلسطين المحتلة، وإطلاقها نحو 300 مقذوف وصاروخ، منها صواريخ كروز والفرط صوتية، استطاعت بذلك التملّص من سلسلة متوازية من الدفاعات الجوية، ما أرسل رسالة جديدة إلى صنّاع القرار في واشنطن، فضلاً عن تعرية أداء منظومات الدفاع الجوي «الإسرائيلي» البائس.
السردية الأميركية بشأن تطورات البحر الأحمر في منطقته ومضائقه تعتبر إيران المشغّل الأساس لما يجري، ليس في اليمن فحسب، بل في جبهة جنوب لبنان أيضاً، وتعكس بمجملها «تفعيل طهران خيارات مواجهة أخرى»، بحسب المفردات العسكرية.
وأبرز تلك الفوائد على إيران هو إحجام «حلفاء واشنطن الإقليميين» عن المشاركة في التحالف الدولي المعلن تحت راية الولايات المتحدة، فضلاً عن ارتفاع التكاليف «الاقتصادية على إسرائيل»، وامتداداً على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
من الجائز القول إنّ النتائج المباشرة «لجبهة البحر الأحمر» تحيلها إلى مرتبة أعلى في سياق الاستراتيجية الإيرانية وتعاظم دورها الذي تذكّر به واشنطن حلفاءها الإقليميين بصورة دائمة.
وتمضي طهران في التحذير من استمرار العدوان على غزة وتطوره إلى حرب إقليمية، الذي يتقاطع مرحلياً مع الاستراتيجية الأميركية الجديدة التي تعود بقوة إلى تأجيج الصراع مع روسيا والصين، وربما تضطر إلى ممارسة بعض الضغط على «تل أبيب» لتجميد جبهة غزة مرحلياً في المدى المرئي.
آفاق السياسة الخارجية للولايات المتحدة «من المرجّح أن تظلّ مركّزة على تحديات المنافسة العظمى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا في المستقبل المنظور» (معهد السلام الأميركي، ربيع 2024).
(في أثناء إعداد هذه المادة وردت تقارير تفيد بحتمية التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، الأمر الذي يستدعي من واشنطن إعادة تقييم أولوياتها ومحاصرة التهمة الشعبية للرئيس بايدن بأنه «يرأس حرب الإبادة الجماعية» على الشعب الفلسطيني في غزة وتفرّغه لحملته الانتخابية).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى