ماذا بين واشنطن وتل أبيب؟
ناصر قنديل
فجأة ودفعة واحدة برز الى السطح ما هو أبعد من حرب كلامية بين واشنطن وتل أبيب. فالرئيس الأميركي جو بايدن يعلن أن وقف تدفق شحنات الأسلحة والذخائر إلى كيان الإحتلال أصبح على الطاولة اذا صممت حكومة الكيان على خوض معركة رفح، ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أعلن أن حكومته سوف تمضي في حربها وهي لا تتلقى التعليمات من أحد، سواء ساندتها واشنطن أم لا. وبالتوازي خرجت مواقف أميركية سياسية وشعبية مؤيدة من جهة ومنددة من جهة مقابلة بمواقف بايدن، وخرجت مواقف إسرائيلية مؤيدة ومنددة بموقف نتنياهو. والمراقبون منقسمون، قسم يرى أن ما يجري مجرد تقاسم أدوار، وقسم آخر يرى أن التباين الذي بدأ تحت الرماد قبل أسابيع أصبح الآن على السطح.
القول بتقسيم الأدوار بين واشنطن وتل أبيب ليس جديداً ولا مستغرباً، خصوصاً أن ما فعلته واشنطن وما زالت تفعله لمساندة الحرب الإجرامية لجيش الاحتلال أهم بكثير من مجرد إرسال أسلحة وذخائر، علماً أن لا احد يملك ما يوثق تجميد إرسال الأسلحة والذخائر. وواشنطن لم تتوقف عن مواجهة رأي عام داخلي ومناخ دولي كاسح لمساءلة حكومة الاحتلال على جرائمها، واستصدار قرارات من المؤسسات الدولية تقيد حركتها، وتقيد قانوناً لبيعها السلاح على مساحة العالم، وهي تقف وحيدة بلا تحفظ كمدافع مستميت لمنع أي إزعاج أو إحراج او مساءلة أو ملاحقة لحكومة الكيان ومسؤولي سلطاته المدنية والعسكرية. ويوم كان الرد الإيراني الرادع كانت واشنطن تضع كل مقدراتها لحماية الكيان، وفي جوهر المعادلات الكبرى تدرك واشنطن انها لا تستطيع تحمل ضعف تل أبيب أو هزيمتها، وتدرك تل أبيب أنها لا تبقى على قيد الحياة دون دعم واشنطن ومساندتها.
فرضية تقاسم الأدوار تجد مصداقيتها في كون هذا التجاذب يفيد الطرفين بصيغة رابح رابح. فالرئيس الأميركي بتميزه المعلن عن نتنياهو، في الموقف من الحرب تحت عنوان الجرائم بحق المدنيين وتوريد السلاح، يكسب المعارضة الداخلية، وهو عشيّة الانتخابات، ويخاطب مناخاً عربياً حليفاً لواشنطن يضعف ويخسر معه أمام الرأي العام العربي بسبب الدعم الأعمى الذي تقدمه واشنطن لتل أبيب، كما يحجز مقعداً في ادارة ما بعد الحرب من موقع ادعاء الحياد وإزالة وصمة الشراكة مع الكيان في الحرب وجرائمها. ومن هذا المقعد المحايد نظرياً يستطيع خدمة المصلحة الاسرائيلية بصورة أفضل. ونتنياهو يظهر كزعيم سياسي مستقل وشجاع تجرأ على مخالفة الرئيس الأميركي والتمرد على طلباته، وإذا فشلت معركة رفح تتدخل واشنطن لإنقاذه ويبدو تراجعه استجابة للطلب الأميركي وليس هزيمة أمام المقاومة، وإن حقق إنجازاً تتقدم واشنطن لتسييل إنجازه العسكري في ملف التفاوض بداعي منحه جائزة ترضية منعاً للأسوأ.
الفرضية الأخرى التي تقول بوجود تباين حقيقي بين واشنطن وتل أبيب، تستند أيضاً الى اسباب وجيهة، فنحن لسنا في اليوم الأول للحرب، وقد مضت عليها سبعة شهور، وبرزت خلالها محدودية القدرة العسكرية الأميركية الإسرائيلية على انتاج الردع أو فرض الوقائع، سواء في حرب قطاع غزة، أو على جبهة لبنان وجبهة اليمن، وختامها كان مع الرد الإيراني الرادع. وعندما تتبلور حقيقة لا جدوى المضي بالخيار العسكري، تملك واشنطن هامش التفكير بالانكفاء العسكري والرهان على بدائل تتيحها المكانة السياسية الدولية والإقليمية التي تشكل منصة أي ترتيبات سياسية لما بعد الحرب والتفاوض حول القضية الفلسطينية، والتأثير المالي المباشر أو عبر إدارة الأموال التي تحتاجها غزة من أوروبا ودول الخليج وتوظيفها في السياسة، وواشنطن ترى أن حلفاءها الذين كانوا قبل طوفان الأقصى واجهة الدول الفاعلة في المنطقة، بلا دور في ظل الحرب، وهم مهمشون لصالح قوى صغرى ودول صغيرة، حيث اليمن وجنوب لبنان وغزة يرسمون معادلات المنطقة، بدلاً من مصر والسعودية والإمارات، بينما الكيان الذي يقوم كل دور مفترض له اقتصادياً وسياسياً على قوته العسكرية، فإنه يفقد كل مقومات الدور عندما يوضع الخيار العسكري جانباً، وهو في موقع الضعف.
الكيان الذي يعتاش على مكانة أميركا وأموالها وسلاحها، ويعتمد على حمايتها، لم يعد تلك القوة التي يعتمد عليها عسكرياً. وهو بالأصل كان يستند الى سمعته العسكرية وقوة ردعه لينتزع أدواراً أخرى تنتزعها له واشنطن، مكافأة على أدائه الوظيفي كموقع متقدم للغرب في الشرق، وهو لم يصبح عبئاً عسكرياً ومالياً فقط، بل أصبح عبئاً سياسياً داخلياً على الرئيس الاميركي، يهدد مصير انتخاباته، بفعل السقوط الأخلاقي المدوي الذي لحق به بفعل جرائمه التي حمته واشنطن من المساءلة عنها، وواشنطن تضيق ذرعاً بهذا الولد المدلل الفاشل، بينما الكيان يعيد فشله الى الفشل الأميركي في منع فتح جبهات الإسناد خصوصاً في لبنان واليمن، التي لولاها لاستطاع التفرغ لغزة وتحمل تبعات الفوز بمعركتها.
تزامن السجال مع حدثين يرسمان إيقاع المرحلة، الأول هو مشروع اتفاق غزة، والثاني معركة رفح، والواضح أن لا الكيان ولا أميركا يغامران بحرب مفتوحة في رفح، وهما يعلمان أنه ما لم تتكفل المقاومة في غزة بإفشال الحرب قياساً بما تقوله تجارب معارك غزة، فإن محور المقاومة لن يدع غزة ومقاومتها يسقطان، وهو يقول إن الهزيمة ممنوعة، ما يعني فتح الطريق نحو حرب إقليمية، لا يتحملها الكيان ولا تريدها واشنطن، ما يعني أن المطروح على الطاولة هو معركة رفح الصغرى، بين المعبر والمطار، نصف معركة، يوازيها عرض تفاوضيّ صنعته واشنطن وسوقه الوسيطان المصري والقطري لدى حماس، فقبلته لما توفر فيه من تلبية لشروطها، لكن الأميركي ينكر ابوة العرض، ويكتفي بالقول إنه كما فاوضت حماس يمكن للكيان أن يفاوض، فنصير مع نصف اتفاق، وبين نصف اتفاق ونصف معركة نحن في مخاض اتفاق، يتسع لمعادلة تقاسم الأدوار لاحتواء خلاف له أسباب موجبة.