سيف القدس وطوفان الأقصى والتحولات الكبرى
ناصر قنديل
في 10 أيار 2021، قبل ثلاث سنوات بالتمام والكمال، شنّت المقاومة في غزة أول هجوم صاروخيّ على تل أبيب ترجمة إنذار وجهته لكيان الاحتلال لوقف الاعتداءات على المسجد الأقصى. فكان أول إعلان انتقال من جانب المقاومة من استراتيجية الردع القائمة على استخدام القدرة الصاروخية لمنع العدوان على قطاع غزة، الى استراتيجية تهديد عمق الكيان لتوفير الحماية للمسجد الأقصى، ثم جاءت وحدة الساحات لتشمل حماية الضفة الغربية بمظلة الردع الهجوميّة المتوسّعة وصولاً إلى طوفان الأقصى، الذي مثل هجوماً استراتيجياً شاملاً تجاوز حدود الاكتفاء بتهديد عمق الكيان مقابل توفير الحماية لمساحة من الجغرافيا والحقوق الفلسطينية إلى عمل بري نوعي طال ثلاثة أضعاف مساحة قطاع غزة، ليفتح باب فك الحصار عن قطاع غزة وضمان أمن المسجد الأقصى وتأمين حرية آلاف الأسرى.
على خلفيّة هذا التحوّل الذي صنعته المقاومة في غزة والذي أعقبه أول ظهور عملي ميداني لمحور المقاومة، بفتح جبهات قتالية مستدامة مثل جبهة اليمن في البحر الأحمر وجبهة جنوب لبنان في شمال فلسطين، ومساندة ناريّة من جبهة العراق طالت القواعد الأميركية في سورية والعراق ومواقع حيوية في عمق الكيان، دخلت المنطقة في أول حرب عربية إسرائيلية لا تخوضها الجيوش العربية، ولكنها تتحوّل الى أطول حروب العرب على الكيان، وأشدّها قسوة وتهديداً لأمن الكيان الاستراتيجي، ما استدعى حضوراً أميركياً وغربياً مباشراً، فشل هو الآخر في رفع هذا التهديد، ودخلت أميركا بموجبه في حرب استنزاف تآكلت معها قوة ردعها في ضمان أمن البحار، عبر ما شهده البحر الأحمر ولا يزال.
في ذكرى ثلاث سنوات لسيف القدس، وفي ضوء ما تلاه، يمكن القول بثقة إنه كان فاتحة عصر استراتيجي جديد، جوهره بدء أفول كيان الاحتلال واحتضار قدرة قوته العسكرية على تأمين تفوقه الاستراتيجي الذي ساد المنطقة ومثل سقفاً لتطوراتها لسبعة عقود متتالية، لندخل العصر الاستراتيجي الجديد وجوهره انتقال المبادرة الاستراتيجية في المنطقة من يد الثنائي الأميركي الاسرائيلي إلى يد محور المقاومة، الذي قدمت إيران خلاله بما تمثل من عمق استراتيجي للمحور، صورة عن انتقال تفوّق قدرة الردع لصالح المحور، عبر الرد الرادع على الغارة التي استهدفت قنصليتها في دمشق، بينما كانت تقف كل قوات الناتو الجوية والبحرية على ضفة توفير الحماية للكيان في التصدي للصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية.
من أبرز سمات هذا التحوّل الاستراتيجي ما نشهده من حرب نظامية مكتملة المواصفات في جبهتي البحر الأحمر وحدود لبنان، حيث يتقابل في جبهة البحر الأحمر، أقوى جيش في العالم مع قوة شبه نظامية، حيث يفشل الجيش الأميركي بإقامة توازن مع حركة أنصار الله، بينما يتقابل في جبهة حدود لبنان الجنوبيّة أقوى جيوش المنطقة مع قوة غير نظامية، فيفشل جيش الاحتلال عن استرداد زمام المبادرة من يد حزب الله الذي يفرض إيقاع الجبهة منذ ثمانية شهور. وهذا النوع الذي لم نعرف له مثيلا في الحروب، من مواجهة نظامية بين قوتين واحدة تتمتع بتفوق بائن في التجهيز والسلاح والقدرة النارية، والثانية تتمتع بالتفوق الأخلاقي والقدرة على تحمل بذل الدماء والدفاع عن حق بائن، وتجسيد أعلى مستويات الإخلاص لقضية والمثابرة في بناء القدرة والإتقان في توظيف التكنولوجيا، ويكون التفوّق للثانية في منازلة نظامية، وليس في حرب عصابات ومقاومة.
من سمات هذا التحول أيضاً، أن هذه الحرب العربية الإسرائيلية التي يخوضها العرب عبر تشكيلات مقاوماتهم في عدة دول، ويسجّلون فيها الإمساك بزمام المبادرة الاستراتيجية، أبقت الجيوش العربية بعيداً عن جبهات القتال، وأبقت العواصم العربية بمنأى عن التعرض للنيران، وأبقت الاقتصادات العربية ودورة الحياة الطبيعية لأغلب المواطنين العرب، بمنأى عن أغلب تداعيات الحرب بكل وجوهها، حيث تتحمّل عبء الحرب، أقليّات شعبية منظمة لكنها الأشدّ فقراً والأصغر حجماً، والأكثر تعرضاً للحصار والدمار، هي الشعوب في غزة واليمن وجنوب لبنان، وغالباً في ظل انقسام وطني داخلي في بلدانها حول خيارها المقاوم، وتحت مظلة استهداف عربي رسمي لها وصفها غالباً بأسوا النعوت ولاحقا بأقسى التهم، فصار سمة هذا التحول أنه وضع معايير جديدة للدول الفاعلة، وهمّش الدول الكبرى والغنية وصاحبة ترسانات الأسلحة وثروات النفط، وتقدّمت عليها الأضعف والأصغر والأفقر بين العرب.
من سمات هذا التحوّل أنه أظهر أمامنا كيف يتم ربح الحرب الإعلامية في فرض السردية الفلسطينية على مساحة العالم، بالطريقة ذاتها التي انتصرت فيها المقاومة على الجيش الذي قيل إنه لا يُقهر، فهُزمت الآلة الإعلامية العملاقة للغرب أمام مقاومة إعلامية شعبية متواضعة الإمكانات، بمثل ما هُزمت الآلة العسكرية العملاقة أمام مقاومة عسكرية شعبية متواضعة الإمكانات.
تستحق معركة سيف القدس التي افتتحت هذه التحولات، أن تسجل كعلامة فارقة في تاريخ العرب.