أولى

كيف يوقف إطلاق النار لوقف الإبادة الجماعية في غزة؟

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*

ادّعت القيادة الإسرائيلية في مستوييها السياسي والعسكري أنها قادرة على تحقيق أهدافها في قطاع غزة بالقوة العسكرية وأنّ المسألة لا تعدو كونها مسألة وقت فقط، وظنّ وزير حربهم أنه أيضاً وقت يتراوح بين شهرين أو ثلاثة أشهر وقد تتوسّع الى شهر إضافي رابع في حدّ أقصى، وأطلقت عدوانها على غزة تحت شعارات ـ أهداف ثلاثة: إطلاق الأسرى، تدمير المقاومة، تغيير ديمغرافية القطاع بما يتناسب والأمن الإسرائيلي ويفرض تهجير ما يقرب من مليوني فلسطيني من القطاع.
ذهبت «إسرائيل» إلى الميدان مستندة الى قدرات عسكرية ذاتية بالغة القوة ومسندة بدعم غربي وخاصة أميركي غير محدود ومتكئة على وعد أميركي بأن تتحمّل أميركا أعباء مواجهة كلّ الأخطار التي تتهدّد «إسرائيل» التي لا يطلب منها سوى الاهتمام بشأن قطاع غزة، حيث هو مسرح تحقيق أهداف «إسرائيل» الاستراتيجية والتي بها ومنها تبدأ عملية تصفية القضية الفلسطينية وفقاً للمفهوم «الإسرائيلي» المتطرف الذي يقوده اليوم نتنياهو.
بيد أنّ «إسرائيل» كما يبدو، ولنقص بالمعطيات الاستخباريّة والاستعلام العسكري أو لغرور قاد الى عمى في تقدير الذات وتقدير العدو، فوجئت عملانياً واستراتيجياً بشكل منعها من تحقيق أيّ من أهدافها ما جعلها بعيدة عما تطلبه أو تدّعي القدرة على تحقيقه، ففي حين كان وصل نتنياهو الى حدّ القول بأنّ خطوة واحدة فقط تفصله عن «النصر المطلق» فقد كان الواقع يثبت أنّ هذا النصر المُدّعى بعيداً جداً عن متناول اليد «الإسرائيلية»، وليس هو فقط على هذا البعد بل أيضاً حتى شبه النصر أو الأمل بتحققه غير قائم في حيّز الواقع.
أمام هذا العجز العسكري الميداني انقلبت «إسرائيل» للعمل على خطين… خط الحرب الطويلة المدى التي تحول دون الإقرار بالهزيمة إذا توقفت نيرانها دون تحقيق أهدافها، وخط تعويض الفشل بممارسة الإجرام المتمثل بالقتل والتدمير والمنتج للإبادة الجماعية التي تحقق بشكل غير مباشر هدف تدمير المقاومة وإحداث التغيير الديمغرافي في القطاع عبر القتل الممنهج والمنفذ بكونه مقصوداً بذاته، حيث إن القتل المتواصل والتجويع والحرمان من الخدمات الطبية ومنع أو التضييق على الإمداد بالسلع المعيشية، كلها أمور تريدها «إسرائيل» لتنفيذ الإبادة الجماعية التي بات لديها هدف بديل قائم بذاته تسعى «إسرائيل» إليه خاصة جناح اليمين المتطرف فيها الذي يرفض وبشدة وقف الحرب ويمنع أيّ حلّ او هدنة او تسوية توقف أعمال الإبادة الجماعية تلك.
هذا الانقلاب جعل «إسرائيل» تعمل بدون خطط عسكرية في الميدانية توافق القواعد المعتمدة في الصراعات والحروب، وهذا ما سجّله عليها المراقبون بدءاً بالمراقبين «الإسرائيليين» الذين عابوا على قيادتهم العمل في الميدان بدون خطط وبدون الاستناد الى معطيات ميدانية صحيحة وبدون الإحاطة بالموقف وتقديره بشكل سليم.
وفي المقابل فرض السلوك الميدانيّ على جبهة المقاومة تخطيط مواجهتها على أساس الحرب الطويلة والعمل باستراتيجية الضغط المتواصل والمتصاعد من أجل إيقاف الحرب وبات وقف إطلاق النار هدفاً بحدّ ذاته، لأنه المدخل أو العائق المانع لتحقيق أهداف «إسرائيل».
بيد أنّ وقف إطلاق النار هذا ومن الناحية العملانية لا يمكن الوصول إليه مبدئياً إلا من خلال تحقق حالة من حالات ثلاث هي: الحالة الأولى تتعلّق بوضع الجيش “الإسرائيلي” وتتشكل عبر إنزال ضربات قاسية به تقوده الى أحد الانهيارين… الانهيار الميداني المادي أو الانهيار الإدراكي المعنوي، أو الحالة الثانية المتمثلة بتدخل جدّي وقوي من الولايات المتحدة القادرة على ممارسة الضغط المتعدّد الأشكال على نتنياهو وفريقه اليميني المفرط بالتطرّف، أو الحالة الثالثة عبر تحرك قوي ومتواصل في الشارع “الإسرائيلي” للضغط على الحكومة لوقف حرب باتت من غير أفق، لم نذكر في هذه الحالات الموقف الدولي عامة وما يمكن أن يصدر عن القضاء الدولي او الأمم لمتحدة من قرارات لأنّ “إسرائيل” لا تعيرها أيّ أهمية، وعليه نسأل أيّاً من هذه الحالات ممكنة التحقق او قريبة من ذلك؟
بالنسبة للحالة الأولى أيّ الحالة العسكرية الميدانية نجد أنّ ما تقوم به المقاومة بعنوانيها الأساسي والمساند هامّ جداً على هذا الصعيد، ان من خلل ما يحصل في قطاع غزة وما توجّهه من ضربات موجعة للعدو جعلت الكثير من المتطوّعين العسكريين يخافون الذهاب الى الميدان، او من خلال ما تقوم به المقاومة الإسلامية بشكل خاص عبر جبهة الجنوب اللبناني وما تعتمده من استراتيجية الضغوط القصوى وقيامها بزجّ منظومات أسلحة جديدة أشدّ تدميراً وأشدّ فتكاً بالعدو، الأمر الذي أوصل سكان شمال فلسطين المحتلة من الصهاينة الى حالة اليأس من قدرة حكومتهم وجيشهم على استعادة السيطرة على الأرض وهدّدوا بالانفصال عن الكيان الذي لا يحمي أبناءه. وهنا تسجل للمقاومة في لبنان براعتها في التخطيط الاستراتيجي وحذاقتها في التنفيذ العملاني ومهارتها في الإعداد اللوجستي. ومع ذلك لا بدّ من مواصلة عمل المقاومة بالشكل الذي يدرك فيه الجيش العدو وتالياً قيادته السياسية أن مزيداً من الحرب يعني مزيداً من الخسائر ومزيداً من افتضاح الوهن في البنية القتالية الإسرائيلية.
أما عن الحالة الثانية فيبدو أن التحرك على مسارها انطلق وإن بشكل خجول وهو يحصل تحت ضغط حركة الاحتجاج الطالبية الأميركية التي دفعت قيادة أميركا إلى التلويح بتقنين إمدادها لـ”إسرائيل” بالقنابل الفتاكة المدمرة والتحرك بما يوحي بأنها بصدد ممارسة ضغط ما لوقف إطلاق النار او أقله لوقف عملية رفح الجارية. ولكن هذا لا يكفي بل إنّ الوضع يتطلب مزيداً من الضغط على الحكومة الأميركية لتمارس القدر المطلوب من الضغوط على “إسرائيل” لوقف الحرب.
أما عن الحالة الثالثة فإنّ هناك عدة أوراق يمكن لعبها في هذا المجال في طليعتها ورقة الأسرى وكذلك ورقة الحصار الذي تفرضه اليمن من البحر الأحمر على المصالح البحرية الإسرائيلية إضافة الى خوف الأهالي على أبنائهم الذين يُرسَلون الى جبهات الحرب ويتعرّضون لخطر القتل في الميدان.
إنّ “إسرائيل” تعلم أنها أمام حائط مسدود في الميدان وهي تدرك انّ ما لم تحققه في أشهر سبعة لن تتمكن من تحقيقه في أسابيع سبعة، كما تدّعي وهي مقتنعة في ذلك، ولذلك فهي تؤخر وقف الحرب حتى تؤخر الإقرار بالهزيمة ولتطيل عمر اليمين المتطرف وعلى رأسه نتنياهو في الحكم. ولذلك ومع عظيم الإنجازات التي حققتها المقاومة على كلّ الجبهات الأساسية والمساندة، يجب العمل وبكلّ تركيز وتوسّل كلّ السبل المتاحة لوقف هذه الحرب التي لم يعد من هدف إسرائيلي حقيقي فعلي فيها سوى قتل الفلسطينيين في غزة لإبادتهم من القطاع.

*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى