الأطفال والصدمات… غزة نموذجاً
} فيوليت داغر
تردّدت كثيراً قبل الخوض في هذا الموضوع الشائك. إنما لا بدّ لنا من تناوله لأهميته. وعليه، آمل أن يُفهم كما يستوجب ولا يُحمّل أكثر مما يحتمل. ففي ظلّ صعوبة الواقع المُعاش، من واجبنا مواجهة أقدارنا بدل الهروب من النظر إليها، وإلقاء المزيد من الضوء عليها لتسهيل التعامل معها بأفضل ما يمكن.
يتعرّض الأطفال خلال مرحلة التنشئة لصدمات تكون في العموم خفيفة وبسيطة. منها ما يكون مرتبطاً بأخطاء من طرف الوالدين خلال تربيتهم لهم أو من البالغين المسؤولين عن تعليمهم، أو ممن لهم أثر ما في حياتهم بمن فيه رفاقهم. هذه التجارب تشكل ركناً من أركان تكوين شخصيتهم ويمكن للكثيرين تجاوزها دون كبير تأثيرات. في المقابل هناك من يبقى يتصرف، وقد بلغ سن الرشد أو من العمر عتياً، وكأن الطفل الذي كان عليه والذي بقيَ متوارياً في داخله، يصرخ عند كلّ محطة تعيده في لاوعيه لزمن حدوث المشكلة الأصلية.
أحياناً ما تتكوّن المشكلة من تغيب الآباء في العمل أو رمزياً أو بعد طلاق، حتى ولو كانوا محبّين ويعتنون بأطفالهم. أحياناً أخرى لأنّ لهم طريقة في تربيتهم قد تؤذي عن لاوعي ودون قصد الطفل. ففي مراحل من حياتها، تمرّ الأسرة بفترة صعبة من التوتر والقلق، تنعكس تأثيراتها على الأطفال، وبنوع خاص الشخصيات الحساسة منهم، أو التي لا تساعدهم أعمارهم على تفهّم واستيعاب الوضع. خاصة عندما تتكوّن عند العائلة ارتدادات للأحداث، تؤدّي لسلسلة من السلوكيات التي تديم الصدمة، بدل هضمها وامتصاص حدّتها وحماية الأطفال من تأثيراتها. فالخلية الأسرية كالوعاء الحاضن، إنْ تشققت أطرافه بفعل الضغوط والصدمات يصبح ما بداخله عرضة للمفاجآت غير السارة، ويفقد الوالدان شيئاً من دورهم في تأمين الحماية والأمان لعناصرها، ورمزيتهم كمدماك متماسك يعول عليه لبناء الأجيال.
السلوكيات التي يتمّ توارثها من خلال التربية عبر الأجيال، هي جزء من ثقافة العائلة والمجموعة التي ينتمي لها الأفراد، والتي فيها الغث والسمين. وقد لا نجد الكثير منا من يعمل عليها لاستيعابها وتفكيك عناصرها وإدراك معانيها وتأثيراتها، كي لا تنتقل تبعاتها للأجيال القادمة. حيث من الممكن تخفيف المعاناة منها والحدّ من مخاطر تكرارها بالعمل عليها وتعلم طرائق الدعم النفسي، وكيفية إحداث توازن يقي من تفاعلاتها الضارة عبر أنواع العلاجات السلوكية -النفسية المتوفرة. المبتغى من هذه العلاجات التوصل لعدم التركيز على سبب المشكلة، بل تجاوزها بالقبول بها كأمر حدث في زمن مضى. وذلك بلوغاً للمغفرة والعفو عن المتسبّب بها، وتوخياً قبل كلّ شيء للسلام الداخلي والعيش الهانئ، كما وتجنيب المحيط والأجيال المتعاقبة الآثار الضارة. حيث بات من الثابت أن الصدمات الكبرى تنطبع عميقاً في متلقيها عبر تغييرات في الجينات تنتقل من جيل إلى جيل.
في غزة، الأوضاع كما نعهدها منذ سنوات عديدة صعبة جداً. كنت أشبّهها، عند زيارتها قبل ثلاثة عقود، بسجن دون سقوف أو مفتوح على السماء. هذا المنبسط الجغرافي الذي تنحشر فيه أكبر كثافة سكانية في العالم، تحوّل قبل أكثر من نصف سنة إلى ما يشبه المقبرة الجماعية. وذلك اعتباراً للكمّ الهائل من الدمار والكوارث وأحزان فقدان الأهل والضحايا بالآلاف، كما النزوح والحرمان من معظم إنْ لم يكن كلّ أسباب الحياة. تعداد غير كاف للإحاطة بجلّ مسبّبات الأوجاع والصدمات، وعندما يكون الأطفال الهدف والوقود قبل سائر من عداهم. فنحن نشهد أو نقرأ أو نسمع من يعلنون على الملأ من صهاينة الكيان المؤقت نواياهم، والذين يتكئون على تعاليمهم التلمودية لتبرير قتل الطفل وحتى بقر بطن أمه خلال فترة حملها باعتبار ذلك حلال لهم. بالتأكيد، تحويل البشر لحيوانات بنظر العدو يسهل عليه سحقهم وإفراغ الحقد الأعمى وكره الذات الآتية من ثقافة الغيتو والضحية.
إذن، الصدمات التي تعرّض لها أطفال غزة على مرّ السنوات، وبنوع خاص خلال الأشهر السبعة الفائتة، لا يمكن تصنيفها بأيّ حال بالبسيطة أو الخفيفة كما وصفنا أعلاه. هي دون أدنى شكّ مركبة ومعقدة. كون العنف الجسدي والعاطفي – النفسي الذي وقعوا ضحيته، حصل في مناسبات متكرّرة وبأشكال مختلفة، عدا عن فظاعة وحشيته. هم عاشوا في جو من الحرمان من سائر مقومات الحياة وأسباب العيش من مأكل ومشرب ميسّر ومشفى للعلاج عند الحاجة. علاوة على خسارة المأوى الآمن والنوم الهانئ، كما وضرورة التنقل باستمرار، هرباً من القصف بالسلاح المتطور بما فيه المحرّم دولياً، والذي بحدّ ذاته يصيب البعض منهم بضرر أو عطل أو استئصال عضو من جسدهم. أطفال في حالة تأهّب دائم، لا راحة لعقولهم وأجسادهم تحت التهديد المستمرّ والترهيب والخوف على حياتهم وحياة ذويهم. وضع يشعرهم بانعدام الأمان والاستقرار المطلوبين لنمو طبيعي وسوي، خاصة مع الافتقار للأطر والقواعد التي تتغيّر طوال الوقت وتفتقد الحدّ الأدنى المطلوب لتأمين ذلك. يُضاف لهذه اللوحة، حالة القاصرين الذين ألقي القبض عليهم وأودعوا السجن وتعرّضوا لأشكال من العنف بتعذيبهم النفسي والجسدي.
هذه التجارب القاسية تثير بالتأكيد مشاعر وردود أفعال مختلفة بين الأخوة وأفراد العائلة، كما وصعوبات متباينة في ما بينهم في التعامل معها. وذلك بفعل عوامل العمر، وملكة الإدراك، والصفات الشخصية من حساسية وعدم تقبّل أو استيعاب لمجريات الأحداث. فكلّ فرد كما نعلم متفرّد ومتشابه مع سواه في آن. لقد كبر أطفال غزة قبل أوانهم، وأصبح بعضهم بالقوة آباء لأهلهم بشكل رمزي. كما وقع على عاتق بعضهم الآخر تحمّل مسؤولية – أو جزء من مسؤولية على الأقلّ – من بقيَ من أخوة، مع فقدان أو استشهاد أحد الوالدين أو كليهما. ويمكننا هنا أن نتصوّر مرارة الفقدان، إلى جانب صعوبة تدبير الأوضاع، لا سيما في ظلّ شبه غياب للمؤسسات الراعية، وتشرّد من بقيَ من أفراد العائلة في أماكن عدة.
وإنْ كان للأماكن وللأشياء الجامدة مكانة رمزية وعاطفية هامة، فكيف نحصل على الأمان مع الفقدان بفعل التدمير أو النزوح المتكرر المفروض؟ وهنا لا بدّ من الإشارة إلى استغلال العدو غياب الأطر الحاضنة والمؤسسات الراعية، والاعتماد أحياناً على مجموعات تنضوي في جمعيات أو غيره، لتسريب أطفال عبر المعبر، لا أحد يعلم اليوم عنهم شيئاً. حيث من المحتمل أنه يجري استعمالهم في تغذية تجارة الأعضاء (حيث تملك دولة الكيان المحتلّ أكبر بنك من جلد الإنسان على سبيل المثال)، أو الاسترقاق والاستغلال الجنسي. وهي أنواع من التجارة ينشط فيها قديماً تجار من هذا الكيان بشكل لم يعد خافياً على أحد، حيث استغلوا الكثير من الأحداث إبان الاضطرابات التي حلت بدولنا العربية لتعزيز تجارتهم هذه وتضخيم أرباحهم.
إنْ كان بعض تأثيرات هذه الصدمات قد تتوارى عن الأنظار مؤقتاً لعدم إدراكها ومعرفة قراءتها، أو لتعمّد إخفائها كنوع من حماية للأهل وبقية أفراد العائلة، يبقى أنّ هذه المجموعة من المآسي اليومية لا بدّ أن تظهر بشكل أو بآخر عبر التوتر والقلق. يعبّر عن ذلك بالبكاء والتبوّل الليلي والخوف من النوم والتعبير العنفي الجسدي أو اللفظي عن المتطلبات. أيضاً بصعوبة الانتباه والتركيز، الاكتئاب، الانطواء على الذات او على العكس التعامل بعنف مع الغير والمعارضة المتحدية. فلتأمين بعض من حماية واستمرارية، يقوم نظامنا العصبي بتنشيط محفزات لسلوكيات، منها الانسحاب وفرملة الاستجابة وقطع التواصل أو ردّ الفعل العنفي. وهذه الصدمات تسبّب اضطرابات نفسية وانحرافات سلوكية آنية أو لاحقة التمظهر، كما وصعوبات علائقية وعاطفية، مرتكزة على قلة الثقة بالنفس وعدم احترام الذات أو عدم القدرة على التعامل مع المواقف العصيبة. ومنها ما ينضوي تحت عناوين الرهاب، وتقلبات الشخصية والذهان وغيره من تصنيفات، تختلف بحسب حدّتها ونوعها وتواترها.
لا معطيات لدينا مباشرة تسمح بدراسة سريرية متأنية، بل افتراضات على ضوء ما نشهد عن بعد وما نسمع أو نقرأ. وإنْ كان من المفترض أن تترك التجربة المعاشة في غزة تأثيراتها السلبية على نمو الأطفال في القطاع المصاب، فإنّ من بينهم دون أدنى شك نسبة نأمل أن تكون كبيرة، ممن نعوّل على قدراتهم العقلية والنفسية وحتى الروحية الكبيرة لاستيعاب وامتصاص الظروف القاسية التي يمرّون بها، وإمكانية تجاوزهم لها لما هو مبشر بكلّ جميل وواعد. نأمل بأنّ الصدمات المركبة والمتراكمة لن يطول زمن مفاعيلها، بتلقفها والتعامل معها من العائلة والمؤسّسات الراعية. نأمل بأن تعود هذه الأخيرة بأسرع وقت لأخذ دورها في إحاطتهم وتفريغ الشحنات العصبية والصدمات النفسية بالطرق والعلاجات النفسية المناسبة، وتخليصهم إلى حدّ ما من عقابيل ما عاشوه خلال الأشهر الماضية. لقد كانت هناك مؤسسة أعرفها تعنى بالصحة النفسية نظراً لما عانوه على مرّ الزمن، لكن هل بقيَ من مؤسسات صحية بعدما استُهدفت الواحدة تلو الأخرى بأفظع ما يكون من همجية؟
بريق الأمل أنه في ظروف كهذه، تتحوّل سلبيات التجارب المعاشة عند الكثيرين إلى قوة كامنة تساعد على مقاومة مختلف أنواع الصدمات ونوائب الدهر. كما أنّ الخط البياني بما يتعلق بالذكاء والقدرات العقلية لا يتأثر غالباً بالآخر المتعلق بالبناء النفسي. ما يفسّر بجزء منه ملاحم الصمود ومواجهة أعتى آلة حربية وأكثرها شراسة وهمجية عرفتها منطقة جغرافية. أملنا كذلك بأنّ هذا الصدع الذي فتحته ملحمة 7 أكتوبر في غزة مصنع الرجولة والأبطال والشرف، سيترك مفاعيله ليس فقط باسترجاع فلسطين والإجهاز على السرطان الذي تفشى في جسد الأمة العربية، وإنما بسريان ذبذبات طاقاته الإيجابية لسائر أنحاء العالم. لتخليص البشرية من أباليس الأرض الذين لن يصمدوا أمام هذا الطوفان الجارف من المقاومات التي ظهرت تباعاً في العالمين العربي والغربي. فيضطروا للتضحية ببعض مصالحهم وعنجهيتهم التي راكموها على حساب أرزاق وحياة أهل الأرض، عندما خضع العباد كالعبيد وقبلوا بتقديم المزيد…