76 سنة فلسطينية وصراع الأوهام والحقائق
ناصر قنديل
– خلال عقود مضت تصارعت في مقاربة القضية الفلسطينية الأوهام والحقائق، واختلط بعضها في حمل صفة الآخر، حتى باتت الأوهام لفترة كأنها هي الحقائق، وبات التعامل مع الحقائق كأنها مجرد أوهام. وكان الوهم الأول الذي كاد يصبح حقيقة هو أن القضية الفلسطينية يمكن أن تموت بالتقادم، وأن يتكفل الزمن بتحويلها الى ملف هامشي في جدول أعمال المنطقة والعالم، وأن يكمل الجميع دورة حياتهم وجداول أعمالهم دون وضعها في مكانة صدارة كان ينادي بها بعض قليل متّهم بأنه يتحدث بلغة خشبية تجاوزتها الأحداث؛ لكن ما يجري منذ ثمانية شهور يقول بقوة وبما لا يقبل اجتهاداً ولا تأويلاً ولا اعتراضاً، أن القضية الفلسطينية حية ولا تموت، وكلما توهّم أحد بموتها انبعثت تشاغب على جداول الأعمال البديلة وتعطيها وتدق يدها على الطاولة بقوة، وتهدّد بقلبها بوجه الجميع.
– على خلفية وهم تكفل الزمن بتهميش القضية الفلسطينية، نما وهمٌ آخر، هو وهم نهائية كيان الاحتلال وسطوته على المنطقة، وبالتالي واقعية الانفتاح عليه والتعامل معه والتباهي بالتطبيع كعبقرية شجاعة تحاكي لغة العصر، على قاعدة أن الكيان مصدر قوة أمنية واقتصادية لمن يسبق الآخرين في مسار التطبيع معه؛ لكن ما يجري منذ الطوفان، وفي ظلال معارك محور المقاومة، التي يخوضها أضعف أطراف العرب وأشدّهم فقراً، ولا تشارك فيها أيٌّ من جيوش المنطقة، ودولها الكبيرة والقوية والغنية، يقول بلسان قادة الكيان بلا استثناء، إنه يواجه خطر التفكك والزوال، وإنه فقد مهابة قوة الردع، وإنه ليس قادراً على حماية بقائه لولا التدخل الأميركي المباشر، كما جرى يوم الرد الإيراني الرادع، وإنه عاجز عن حل المشاكل التي تسببت له بها قوى المقاومة بالاستناد الى قوته العسكرية، من تهجير مستوطني الشمال الى الحصار التجاري في البحار، وإن الرفاه والأمن كعناصر جاذبة للاستيطان قد زالت، وإن الهجرة المعاكسة باتت ظاهرة وازنة وحقيقية، وإن الذين طبّعوا مع الكيان يشعرون بأنه عبء اخلاقي أولاً، في ظل جرائمه التي قال الرئيس الأميركي إنها تجعل الكيان عبئاً على حلفائه، وإن التطبيع عبء لا مصدر قوة أمنياً واقتصادياً، بل إن زمن المقاطعة الذي كان موضع سخرية الكثير من جماعة “سكافة التتبيع”، صار عالمياً وقد فعل فعله بما لا يمكن إنكاره.
– تبخّرت مع هذين الوهمين، أوهام تقول بلا واقعية المقاومة، لأن الكيان قويّ بما يكفي لسحق أي مقاومة، ولأن أميركا قوية بما يكفي لمنع إلحاق الهزيمة به. وها هي المقاومة تتحدّى أميركا في البحر الأحمر وفي قضية أمن قوي أميركي اسمها أمن الملاحة والبحار والممرات والمضائق المائية. وها هي المقاومة تتحدّى جيش الاحتلال في شمال فلسطين في قضية وجودية اسمها أمن المستوطنات، وما شنت حروباً تحت عنوانه، فـ “سلامة الجليل” كان عنوان اجتياح لبنان عام 1982، وقد سلم الأميركيون وقادة الكيان بأن لا سبيل لوقف هذين التهديدين في البحر الأحمر وشمال فلسطين إلا بوقف الحرب على غزة، والمقاومة اليوم قوة عظمى في المنطقة، ويكفي النظر لما يجري في الأيام القليلة الماضية في غزة وفي شمال فلسطين، يقول بقوة إن المقاومة عندما تريد أن تظهر باسها، فإن لا قدرة لجيش الاحتلال على تحمل النزيف.
– كان جماعة “سكافة التتبيع” يتندّرون على كل من يقول في ما مضى بأن تحرير فلسطين مفتاح الجغرافيا السياسية المستقرة للمنطقة، وأنه هدف قابل للتحقيق، لكن الأميركي اليوم يعترف انه دون حل يقبله الفلسطينيون، ويتحدّث هنا عن قيام دولة فلسطينية، لا يمكن الحديث عن استقرار إقليمي. وهذه الحرب الدائرة اليوم تبدو حرب الاستقلال الفلسطينية، التي تعبر مع ذكرى قيام كيان الاحتلال التي يسميها الاحتلال بيوم الاستقلال، ليتقابل مسار الاستقلال الذي أطلقه الفلسطينيون في السابع من تشرين الأول، ويعيد المستوطنين، كما يعترف كبارهم، إلى النقاش فيما إذا كانوا قد تجاوزوا القلق على ما اعتقدوه نهائياً من يوم استقلالهم.
– فلسطين حرّة من بحرها الى نهرها، شعار يردده طلاب العالم، وليس مسموحاً لأي عربي أن يتحدث دون هذا السقف عن فلسطين. والوهم الذي يجب أن ينزعه البعض من رؤوسهم هو أنه بمستطاعهم الحياد تحت شعار “ما خصّنا”، فالذي يعيش في المنطقة عليه الاعتراف أنه، بمشيئته وبدونها، محكوم بتداعيات هذه الحرب الكبرى، وأن اصطفافه ضد قوى المقاومة سوف يجعله مصلحياً على ضفة الخاسرين وأخلاقياً على ضفة المجرمين، وإن قرر العيش خارج المنطقة فسوف تلاحقه اللعنة حيثما ذهب بعيون الاحتقار التي ينظر بها إليه الأجانب الذي كان يقول حتى الأمس إنهم رمز التحضر والتمدن والمثال الذي يُحتذى، وهم شعوب ونخب اليوم يملأون الساحات والشوارع والجامعات هتافات لفلسطين.
– فلسطين اليوم أقرب حقيقة فوق النقاش، وهي لم تكن يوماً أقرب من اليوم.