رياضة

أولمبياد باريس 2024… حفظ روح السلام العالمي يقتضي تحريم مشاركة “إسرائيل”

صوفيا بروكس

هناك مثل قديم يقول (القتل ممنوع. لذا فكلّ القتلة سوف يلقون جزاءهم إلا إذا قتلوا عدداً كبيراً من الناس). اليوم وقد مضى أكثر من نصف قرن على قيام الأمم المتحدة، وبعد مضيّ أكثر من قرن على تأسيس الهيئة الدولية للألعاب الأولمبية عام 1894 في باريس، لا تزال العبارة التي تقول إنّ الرياضة ليست مسيّسة تعتبر من التحديات الكبيرة في ظاهرة الرياضة وتداخلها في النظام العالمي.
ففي سبتمبر من اعام 2023 أقامت اللجنة الأولمبية العالمية دعوى ضدّ روسيا بزعم ما أسمته “تهديد السلام العالمي” ومنعت روسيا آنذاك من المشاركة في الألعاب الأولمبية. كما مُنعت روسيا قبل ذلك من المشاركة في مباريات تصفيات كرة القدم التي تسبق المشاركة في بطولة كأس العالم 2022 في قطر.
حضور الدول المختلفة ومشاركتها في الألعاب الرياضية الأولمبية يتوقف على قبول ذلك من قبل (هيئة (IOC والتي بحسب الصلاحيات المناطة بها تستطيع منع أي دولة من المشاركة في هذه الألعاب متى شاءت دون الحاجة الى توضيح خلفيات قرارها لأي جهة.
ومن جملة الأدلة على هذه الصلاحيات الواسعة أنه في خلال الحرب الأوكرانية سيطرت روسيا على المناطق الشرقية من أوكرانيا، الأمر الذي أدّى بطبيعة الحال الى سيطرتها على مكاتب اللجنة الأولمبية في تلك المناطق. واعتبرت الهيئة حينها بأنّ دولاً مثل روسيا تستغلّ فرصة المشاركة في هذه البطولة الأولمبية وتستخدم نتائجها وإنتصارات لاعبيها في تشجيع تحركاتها التوسّعية وتقوية الروح الوطنية لشعبها. وهذا يعني وفق منطق الهيئة بأنّ المتسابق الأولمبي شاء أم أبى سيساهم فوزه في تشجيع التوسّع الحربي وتقوية الروح القومية والحروب في العالم!
إنّ ميزانية إقامة الألعاب الأولمبية الشتوية في مدينة سوتشي الروسية بلغت 51 مليار دولار في عام 2014 أيّ بما يُعادل ميزانيات الألعاب الأولمبية الشتوية السابقة مجموعة، وقد حدثت بعد سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم. والعجيب في الأمر أنّ هيئة (IOC) الأولمبية في ذلك الزمان لم تنطق ببنت شفة حيال ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم ولم تمنع مشاركتها في الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي أبداً.
وبقبول استدلال هيئة (IOC) الأولمبية العالمية حول عدم جواز مشاركة الدول التي تهدّد السلام العالمي باحتلالها لأراضي الآخرين في الألعاب العالمية كالألعاب الأولمبية. يأتي سؤال هنا ويفرض نفسه وهو لماذا لا يتمّ الآن منع “إسرائيل” من المشاركة في الألعاب الأولمبية التي ستقام قريباً في باريس؟
ولكن التاريخ يقول لنا بوضوح أنه حتى إذا لم تقم هيئة (IOC) بشكل مستقلّ بمنع الدولة التي تهدّد السلام العالمي فإنّ الدول المضيفة أيضاً تستطيع أن تقوم وبمؤازرة وضغط سائر الدول والمنظمات المدنية الاجتماعية بشكل مستقلّ، بفرض حرمان الدول المعتدية على السلام العالمي من المشاركة في الألعاب الأولمبية.
إنّ منع “الإسرائيليين” من المشاركة في الألعاب الأولمبية المقبلة في باريس يُعتبر اليوم من أهمّ القرارات والأعمال التي يتوجب على (IOC) أو الدول الأعضاء القيام بها على وجه السرعة وبشكل قاطع. إذ أن بلجيكا باعتبارها الدولة المضيفة للألعاب الأولمبية في العام 1920، لم تقم حينها بدعوة أعدائها الجيوبوليتيكيين ومن ضمنهم ألمانيا والنمسا وبلغاريا والمجر وتركيا للمشاركة في تلك الألعاب الأولمبية، وكذلك حرمت الألمان من الحضور والمشاركة في هذه الألعاب لدورتين متتاليتين حتى عام 1928، وكذلك فعلت بريطانيا في عام 1928 عندما لم تدعُ ألمانيا واليابان للمشاركة في دورة لندن الأولمبية. طبعاً هذه الدول اتخذت قرارات المنع باعتبارها الدول المضيفة لهذه الألعاب الأولمبية في ذلك الوقت، وكذلك فعلت الهيئة الدولية للألعاب الأولمبية عندما حرمت جنوب أفريقيا في عام 1964 من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية في طوكيو، وكررت ذلك في دورة الألعاب الأولمبية في العام 1968 في مكسيكو سيتي، واستمر حرمان جنوب أفريقيا الجنوبية من المشاركة في الألعاب الأولمبية حتى عام 1992 في دورة بارشلونا بسبب اتباعها سياسة الفصل العنصري (الأبارتهايد)، ولنفس السبب (أي سياسة الفصل العنصري) مُنعت أفغانستان عندما حكمها تنظيم “طالبان” من المشاركة في الألعاب الأولمبية عام 2000.
ولكن بحسب الأنباء المتداولة، فإنّ الإسرائيليين ينوون إرسال أكبر فريق رياضي الى دورة الألعاب الأولمبية المقبلة في باريس في الوقت الذي ترزح فيه هيئة (IOC) تحت نفوذ وضغط الأميركيين والغربيين، وليست عازمة ولا قادرة على منع “إسرائيل” من المشاركة في دورة باريس الأولمبية.
هذا الأمر يدفعنا للتساؤل: أليست الآن الفرصة سانحة لحرمان “إسرائيل” من المشاركة في الألعاب الأولمبية انطلاقاً من نفس الاستدلالات السابقة التي تصرفت بموجبها الهيئة مع روسيا وجنوب أفريقيا وغيرها من البلدان على مرّ الزمن من احتلال وتمييز عنصري، علاوة على الإبادة الجماعية؟
ألم يحن الوقت بعد لتوحيد وتركيز الضغوط على هذه المؤسسة التي تدّعي أنها فقط تُعنى بالشؤون الرياضية للتخلي عن سياسة الكيل بمكيالين وتمنع “إسرائيل” من المشاركة في هذه الدورة، وهي التي حوّلت الملعب الوحيد في غزة الذي يُراعي المواصفات الدولية، والذي يسمى “ملعب اليرموك” الى معتقل للأسرى الفلسطينيين الذين جُرّدوا من ملابسهم وتُركوا عُراة معصوّبي الأعين في هذا الملعب المحاصر، ومورست بحقهم أساليب التعذيب النفسي والجسدي قبل نقلهم الى السجون والمعتقلات الإسرائيلية؟
أليس هدم وتخريب مكاتب الهيئة الأولمبية في غزة وتصفية أكثر من 85 رياضي فلسطيني في غزة بدم بارد، فقط في خلال بضع شهور من 7 أكتوبر حتى 6 ديسمبر عام 2023، موجبات كافية لإدانة “إسرائيل” وحرمانها من المشاركة في دورة ألعاب باريس الأولمبية في عام 2024؟ ألم يحصل هذا كلّه بحسب تقرير منظمة العفو الدولية بعد شنّ “إسرائيل” حملاتها العشوائية ضدّ المدنيين بمن فيهم النساء والأطفال والشيوخ والمرضى، بما يستوجب إجراء تحقيقات موسّعة ودقيقة حول جرائم الحرب الإسرائيلية والتي تثبت حصول إبادة جماعية للشعب الفلسطيني بالقصف وتدمير المنازل على رؤوس ساكنيها بعد قطع المياه والغذاء والكهرباء والدواء عنهم لعدة شهور، فأيّ ظلم أكثر من هذا عدا القنبلة النووية؟
إنّ أهمّ مسألة في الوقت الراهن هي فقدان الأصول الثابتة لحفظ السلام والصلح الدولي ومواجهة تجاوز الحدود الإنسانية والخطوط الحمراء والاحتلال بالقوة العسكرية. والتهاون بهذه الأصول لا يجب أن يكون حدثاً عادياً ومقبولاً في المناسبات الرياضية وخاصة الأولمبية باعتبارها مظهراً من مظاهر (اجتماع الشعوب)، فتلك فاجعة عظمى في تاريخ البشرية.
وربما إذا كان من المقرّر والمفروض اتخاذ خطوات عقابية حيال مرتكبي جرائم الحرب التي حصلت خلال العقود الماضية، فلا بدّ أولاً، من محاسبة أميركا على شنّها الحروب على شعوب فيتنام وأفغانستان والعراق وحرمانها من المشاركة في عدة دورات ألعاب أولمبية متتالية.
ولكن من الواضح أنّ مقولة (الرياضة تتجاوز حدود السياسة الضيقة) ومقولة (الدولة المعتدية لا مكان لها في الألعاب الأولمبية) تبقى مجرّد رؤى بعيدة المنال في المدى المنظور. والعجيب في الأمر أنه حتى مجرّد الاعتراض واتّخاذ موقف أخلاقي وإنساني ضدّ الممارسات الإسرائيلية الظالمة بحق الفلسطينيين من قبل الرياضيين المشاركين في الألعاب الأولمبية سيواجه بالمنع واتّخاذ عقوبات بحق الرياضيين المنتقدين لهذا الظلم الواضح والصارخ من قبل هيئة (IOC) الأولمبية للأسف الشديد.
فلو أنّ روسيا حُرمت من المشاركة في الألعاب الأولمبية المقبلة في باريس بسبب “نقضها الواضح والصريح للسلام” حسب قولهم هم، فمن الأولى عدم السماح للكيان الصهيوني المسخ في الحضور في هذه الألعاب الأولمبية، خاصة أنّ محكمة لاهاي الدولية أقرّت بارتكابه جريمة حرب فظيعة بمستوى جريمة إبادة جماعية وقتل عشوائي وإهلاك لنسل من الفلسطينيين بلا دليل ومبرّر معقول ومقبول، وعلى مرأى ومسمع شعوب العالم قاطبة…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى