أولى

قمة عربية في واد سحيق!

‬ د. عدنان منصور*

كثيرة هي القمم التي يتابعها العالم، وتنعقد على مستوى رؤساء وزعماء الدول.
في قمم الدول، تبحث المواضيع ذات الاهتمام المشترك، فتتخذ في ضوئها قرارات عملية، يتبناها القادة، ويعملون على تنفيذها وتطببقها نصاً وروحاً، لما فيه الصالح العام لدول القمة.
منطق هذه القمم لا ينطبق وللأسف الشديد على القمم العربية بوجه عام. إذ من النادر جداً أن يذهب القادة العرب إلى قممهم، بموقف واضح، شجاع، حازم، يعبّر عن تطلعات وآمال وحقوق شعوب أمتنا دون أن تكون هناك خلافات في العمق بين دول داخل القمة، أو تحفظات من قبل هذه الدولة أو تلك، أو الأخذ بالاعتبار مواقف دول خارجية لا تتماشى سياساتها مع مصالحنا الوطنية والقومية. لذلك نجد القمم العربية تتفق على الحدّ الأدنى، وعلى العموميات التي تتكرّر في البيانات والأدبيات السياسية لهذه القمم.
لقد حفلت محفوظات الجامعة العربية منذ إنشائها بكمّ هائل من القرارات، إذ لم تترك حالة أو قضية، أو موقفاً، أو حدثاً طارئاً، أو موضوعاً، أو تطوراً مستجداً يتعلق بالقضية الفلسطينية، إلا وبحثت فيه، واتخذت التوصيات بشأنها. لكن التوصيات والمعالجة غالباً ما بقيَت نظرية على الورق، دون متابعة أو تنفيذ. وهكذا لم يجتمع العرب على سياسة الحرب ليحاربوا معاً، ولا على سياسة السلام ليسالموا معاً، ولا على موقف موحد تجاه الآخر ليواجهوا معاً! هذا الواقع المرير، جعل الشعوب العربية تفقد ثقتها بالقمم العربية وجامعتها المترهّلة، ولم تعد تكترث بها وبجامعتها، ولا بمراسم الاستقبالات، من مظاهر، وأبّهة، وما يرافقها من خطب طنانة رنانة، تتكرّر مفرداتها وتستنسخ مع كلّ قمة عربية ومؤتمر جديد.
عقدت قمة البحرين في وقت من أخطر الأوقات التي تواجه العالم العربي وبالذات منطقتنا المشرقية، حيث تنفذ دولة الإرهاب الإسرائيلية عملية إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني، وما يرافقها من تجويع، وتشريد، وطمر مئات الأبرياء في مقابر جماعية، متحدّية العالم كله، بما فيه العرب والمجتمع الدولي ومنظماته الأممية.
لم يصدر عن قمة البحرين قرار واحد جريء ضدّ «إسرائيل»، لينفذ على الأرض، ويردّ الاعتبار للأمة، ويصون كرامتها وكرامة شعوبها التي انتهكتها دولة الاحتلال، فيما دول عربية لم تجرؤ على قطع العلاقات مع «إسرائيل»، أو سحب السفراء، أو تجميد العلاقات الدبلوماسية معها، رغم المجازر التي ارتكبتها بحق العرب.
كم هو مؤسف أن نجد في العالم دولاً وشعوباً، تحرك ضميرها، وتحسّس مع الكارثة الإنسانية التي تسبّب بها جيش الاحتلال، ما دفع بها بكلّ شجاعة ومسؤولية إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع «إسرائيل»، فيما «أصحاب» القضية مُصرّون على عدم اتخاذ أيّ قرار أو إجراء عملي حاسم ضدّها، رغم استمرارها بالحرب، وسياسة الحصار والقثل، والتدمير والتجويع!
كم هي مؤلمة الفوارق في المواقف ما بين الشقيق والصديق، عندما يتقدّم الصديق في مواقفه الإنسانية المشرّفة على الشقيق صاحب القضية! وكم كنا ننتظر ونتمنى من قمة البحرين قرارات عربية حاسمة تهز الكيان الإسرائيلي، وتتخذ موقفاً شجاعاً حيال الدول الداعمة للعدوان، فإذا بالقمة يصدر عنها بيان لا يسمن ولا يغني من جوع، وهذا ما يثلج قلب «إسرائيل» وحلفائها في العالم والمنطقة.
لماذا تضع القمم العربية نفسها في موقع الضعف أمام العالم، وهي تملك من مقومات القوة ووسائل الضغط الكثير الكثير، فيما هي تطالب الآخرين، وحثهم على حمل «إسرائيل» تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية والعربية!
هل اتخذت الدول المطبّعة وشبه المطبّعة مع «إسرائيل»، في قمة البحرين قراراً يوقف التعامل معها، ويفعّل «المقاطعة» العربية ضدها، ويغلق الحدود معها، وهي حدود لا تزال ممراً للبضائع والسلع الغذائية العابرة من وإلى «إسرائيل»، أو اتخاذ إجراء ولو بحدّه الأدنى للضغط على الدول التي لا تزال تمدّ تل أبيب بالمال والسلاح؟!
بيان قمة البحرين «أدان» عرقلة «إسرائيل» لجهود وقف إطلاق النار، وتوسيع عدوانها إلى مدينة رفح، و»استنكر» توسيعه، و»أدان» الممارسات الإسرائيلية اللاشرعية التي تستهدف الشعب الفلسطيني. كما جدّد الدعوة إلى تسوية سلمية عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية، وفقاً لقرارات الشرعية الدولية و»المبادرة العربية للسلام». وكأنّ «إسرائيل»، وافقت على المبادرة التي بعد ساعات من إطلاقها قي قمة بيروت عام 2002، قال عنها شارون إنها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به! وفق أيّ منطق تستمرّ القمم في تكرار التمسك بمبادرتها المرفوضة من أساسها من قبل «إسرائيل»، التي وجهت برفضها العنجهي، صفعة قوية لكلّ من تبنّى وسار بالمبادرة؟!
هل بقي شيء للفلسطنيين كي يقيموا دولتهم في الضفة الغربية بموجب «المبادرة» العظيمة التي عجزت القمم العربية منذ 22 عاماً عن منع «إسرائيل» من إقامة المستوطنات عليها، وهي التي تعرف مسبقاً مدى هشاشة وجدية، وضعف القمم العربية في ملاحقة ومتابعة قراراتها، ومدى تأثيرها للأخذ بها.
لم تغب عن قمة البحرين الفرصة للإعراب عن «قلقها الشديد» من التصعيد العسكري في المنطقة، وانعكاساته على الأمن والاستقرار! فهذه الانعكاسات لم نكن «لنعرفها» لولا البيان الذي يدعو أيضاً «الأطراف» إلى ضبط النفس!
لم يتغيّر شيء في قممنا! الوقائع على الأرض هي هي، والمواقف العربية هي هي، وقضية أمة وشعب لا تزال في غرفة العناية المركزة، مع كلّ ما يرافقها من احتلال لأراضيها، ومن حروب، ودمار، وتشريد شعب وتجويعه، وخطر دائم من عدو شرس لا يزال يهدّد على الدوام دول المنطقة بكلّ ما فيها من شرفاء ومقاومين، ومن مطبّعين، ومأمورين ومرتمين في أحضانه.
لم تعد تنفع ولا تجدي بيانات القمم طالما تغيب عن الساحة العربية القرارات الحاسمة تجاه العدو وحلفائه. لم تعد تفلح بعد اليوم القمم العربية طالما يستحكم فيها العجز، والضعف، والخوف، والإذعان للخارج، وغياب القرار الحرّ في اتخاذ القرارات الجريئة التي تليق بمكانة أمة وكرامة شعوبها، واستقلالها، وسيادة دولها.
بعد كلّ ذلك، نتساءل: لماذا العالم بدوله، وقادته، ومنظماته الدولية، وإعلامه، لا يعيرون أهمية لقممنا، ولا يكترثون لقراراتها ونتائجها؟! ولماذا تعربد «إسرائيل» وتتحدّى بكلّ عنجهية العرب وقادتهم وقممهم؟! لأنه وبكلّ بساطة، آثرت القمم العربية، وآخرها قمة البحرين، السير على خطى القمم السابقة، وإنْ اختلفت قليلاً في الشكل، وأن تحفظ بياناتها في الأرشيف، وأن تبقى قراراتها «التاريخية» مجمّدة، غير قابلة للتنفيذ!
هل تجدي بيانات القمم العربية بعد اليوم، حيث لم يبقَ في جعبة القادة العرب في قممهم ما يقولونه في بياناتهم النهائية سوى الجمل التي فيها: يؤكدون، يطالبون، يعربون، يدينون، يستنكرون، يناشدون، يرفضون، يشدّدون، يدعون، يحذرون، يحثون، يقلقون، يهيبون، وينبّهون…
فكيف تستطيع القمة العربية بهكذا بيان، تحقيق آمال أمة وتحفظ حقوقها، وتطلعاتها، وتكون على مستوى المسؤولية القومية لتصعد بعد ذلك من واديها السحيق…!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى