الداخل «الإسرائيلي» بين الإجماع والانقسام حيال حرب غزة
} د. حسن مرهج*
حقيقة الأمر أنّ ما يُطرح في الداخل «الإسرائيلي» حيال حرب غزة واليوم التالي لنهاية الحرب، هو من القضايا الجوهرية التي تعمّق الأزمة داخل «إسرائيل» أولاً، وتالياً العلاقة «الإسرائيلية» ـ الأميركية، فالقيادة السياسية في «إسرائيل» تعتبر أنه لا بدّ من تحقيق أهداف الحرب، وهذا لا يكون إلا من خلال استمرار العمليات العسكرية، كما أنّ واشنطن ترى أنّ ما تريد «إسرائيل» تحقيقه في غزة، يتطلب مقاربة سياسية خاصة لقطاع غزة، تتعلق أساساً باليوم التالي للحرب، ومن سيحكم القطاع، لكن في العمق فإنّ سؤال اليوم التالي، لا يمثل أيّ خلاف بين تل أبيب وواشنطن، بل يُثير خلافاً في الداخل «الإسرائيلي» عموماً وداخل الحكومة خصوصاً، ويمكن اعتبار هذا الخلاف جوهرياً في ظلّ حالة الإجماع على الحرب.
لا يزال تأييد «المجتمع الإسرائيلي» لاستمرار الحرب في غزة كبيراً، ترجمة ذلك جاءت عبر الاستطلاع الشهري الذي يُجريه المعهد «الإسرائيلي» للديمقراطية، حيث أيّد 74% من «الإسرائيليين» في استطلاع فبراير/ شباط الماضي (2024)، توسيع العملية العسكرية في رفح، ويعارضها 12% فقط، وهنا لا يبدو الخلاف كبيراً حول استمرار العمليات العسكرية في غزة، ولكن هناك اختلافات واضحة حول أولويات الحرب. هذه الاختلافات تأتي على شاكلة، هل هي في توقيع اتفاق هدنة وصفقة تبادل أسرى أو منح الأولوية للقضاء على حركة حماس؟
في زيارته لواشنطن، أكد عضو مجلس الحرب، بني غانتس، تأييده لعملية عسكرية في رفح، في حين يختلف مع رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، في موعدها ومدى أولويتها في المرحلة الحالية، ويرى ضرورة التنسيق مع الولايات المتحدة بشأنها.
من الواضح أنّ هناك تراجعاً حيال الإجماع على الحرب في «المجتمع الإسرائيلي»، ومع ذلك تشير استطلاعات الرأي إلى أنّ مواقف الجمهور «الإسرائيلي» تتجه نحو تبنّي مواقف يمينية، ولكن لا يعني ذلك تأييد الجمهور للحكومة الحالية. ففي استطلاع آخر للمعهد «الإسرائيلي» للديمقراطية عارض حوالي 63% من اليهود «الإسرائيليين» إقامة دولة فلسطينية. بالإضافة إلى ذلك، يعارض أغلب اليهود وقف الحرب على غزة حتى لو تضمّن الاتفاق وقف الحرب، وعودة الأسرى والرهائن الإسرائيليين، وضمانات أميركية للحفاظ على الاستقرار الأمني، واتفاق سلام مع السعودية، وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين وإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح. فقد عارض 55% من اليهود «الإسرائيليين» وقف إطلاق النار والحرب حتى ضمن هذه الشروط ويمكن التأكيد أنّ أهمّ محاور الانقسام في المشهد «الإسرائيلي» في ما يتعلق بالحرب، يتركز حول توقيع اتفاق هدنة وتبادل أسرى مع حركة حماس، بما يشمل دخول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، وحول التصوّر السياسي للحرب واليوم التالي.
المشهد في الداخل «الإسرائيلي» يزداد إنقساماً حيال قضية الأسرى والرهائن الإسرائيليين داخل المشهد السياسي والاجتماعي في إسرائيل، ويبدو واضحاً أنّ هذا الانقسام يأخذ مستوى أكثر تطرفاً من جانبي الخلاف؛ فمن يعارض توقيع اتفاق هدنة صعَّد من خطابه ضدّ الصفقة، فعلى سبيل المثال صرَّح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بأنّ استعادة الأسرى والرهائن «الإسرائيليين» ليس هو أولوية الحرب، وأن على «إسرائيل» وقف جميع المباحثات بهذا الشأن وعدم السماح لرئيس الموساد بالسفر إلى الدوحة للتفاوض مع الوسطاء بهذا الشأن. في المقابل، فإنّ التيار المؤيد لتوقيع اتفاق صفقة، مستعدّ لدفع أثمان من أجل إتمامها، ويتهم نتنياهو بعرقلتها عن قصد.
في المقابل فإنّ حالة الانقسام في «المجتمع الإسرائيلي» تزداد اتساعاً، وبهذا الانقسام فقد برزت مشاهد أخرى في المشهد «الإسرائيلي» تتعلق بموضوع الانتخابات، حيث يشير المؤيدون للصفقة إلى مجموعة من المصالح التي يُمكن لـ «إسرائيل» أن تحققها، وأهمّها أنها السبيل الوحيد لاستعادة المحتجزين والأسرى «الإسرائيليين» لدى حركة حماس، وأن لا إمكانية لتحقيق هذا الهدف إلا من خلال الصفقة، وهو بنظرهم أولوية الحرب الأساسية، ويجب تحقيقه بكافة السبل بعد فشل السبل العسكرية في تحقيقه.
الواضح أنّ حركة الاحتجاج تصاعدت ضدّ حكومة نتنياهو، وقد أخذت الأسابيع الأخيرة من الاحتجاجات منعطفاً غاية في الأهمية، يتمثل في تصاعد حدة الاحتجاجات والمطالب، وحتى مستوى العنف الذي تمارسه الشرطة الإسرائيلية ضدّ المحتجّين، لكن للمحتجّين مقاربات مختلفة، اذ يرى هؤلاء بأنّ قبول الحكومة «الإسرائيلية» بالاتفاق يُقلل من حدة الضغط والنقد الدوليين عليها، ويعطيها مجالاً ومساحة لاستمرار عملياتها العسكرية بعد انتهاء مدة الهدنة، ويجدّد شرعية عملياتها العسكرية، فضلاً عن أنّ القبول بالاتفاق ينسجم مع الطلب الأميركي ويحافظ على متانة العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية.
واقع الحال يؤكد بأنّ «إسرائيل» مجتمعاً وحكومة، لا يزال هناك انقسام حول أولويات الحرب وكيفية ترتيب الأهداف المتوخاة منها، وإنْ كانت لا تزال الأغلبية تؤيد استمرارها، فإنّ في مقابل ذلك هناك شريحة واسعة تؤيد إيقاف الحرب وتحرير الأسرى، ونتيجة لذلك تتفاقم الخلافات حول التصوّر السياسي الواجب اعتماده في اليوم التالي للحرب. من هنا يدعو نتنياهو إلى تشكيل حكم فلسطيني مدني في قطاع غزة، لكنه يجب أن يكون منفصلاً عن أيّ جهة سياسية وفصائلية فلسطينية، وليس لها أيّ خلفية سياسية أو طموحات وطنية، لكن ما يريده نتنياهو هو تصوّر غير واقعي.
أما التوجه الآخر، الذي تمثله أطراف سياسية مختلفة من الحكومة والمعارضة وأصحاب الرأي، فإنه ينطلق من أنّ هناك حاجة إلى حكم مدني يكون له ارتباط إقليمي أو مع السلطة الفلسطينية. لكن أصحاب هذا التوجه هؤلاء يشتركون في معارضة توجه نتنياهو المطلق في إقصاء أيّ جهة فلسطينية سياسية ويعتبرونه غير واقعي، فضلاً عن أنّ دوافعه شخصية وليست مصلحة الأمن القومي «الإسرائيلي»، إلا أنهم لا يُجمعون على تصوّر واحد ليكون بديلاً عن طروحات نتنياهو.
ضمن ما سبق، يبدو أنّ حالة الاختلاف في التصوّرات لِما بعد اليوم التالي للحرب، تنطلق من أنّ السيطرة الأمنية «الإسرائيلية» على القطاع ستبقى للمدى البعيد، وعدم عودة السلطة الفلسطينية أمنيّاً في المرحلة المقبلة لقطاع غزة؛ ما يعني نقل نموذج الضفة الغربية إلى القطاع، أيّ بناء حكم فلسطيني له طابع مدني بالأساس، يُبقي السيطرة الأمنية وحرية العمل العسكري لـ «إسرائيل» في القطاع.
*خبير الشؤون السورية والشرق أوسطية.