أولى

يرتقي القادة وتبقى الإرادة

د. حسن أحمد حسن*

عندما يتعلّق الأمر بالموت يصبح التسليم بالقضاء والقدر والآجال المحتومة سُلَّمَاً للخروج من حُفَرِ التأويلات وأخاديد الظنون. فالموت يأتي مرة واحدة، ولن يستطيع مخلوق في الكون الإفلات من قبضته التي يتساوى فيها الجميع، لكن شتان بين مَن يموت وهو ينتظر الموت أن يداهمه ويقطع ملذاته، وبين مَن يقعون على الموت لهدف أسمى من الحياة الشخصيّة، إذ يتعلق الأمر بالدفاع المشرّف والمشروع عن القيم والمبادئ السامية، وحياة الأوطان والشعوب، ونصرة المظلوم في وجه الظالم، وقول كلمة الحق في وجه أكثر سلاطين البشرية جوراً، بل والوقوف بشموخ وإباء وندّية في وجه أولئك الذين استمرؤوا أن يروا العالم دولاً وشعوباً وحكومات ومنظمات وتكتلات ترتعد خوفاً من بطشةٍ يظنونها البطشة الكبرى، وقد غاب عن أذهانهم أن صاحب البطشة الكبرى حيّ لا يموت وهو القاهر فوق خلقه أجمعين.
تلك هي الصورة الأقرب إلى حقيقة المقاومة ثقافة ونهجاً وأنموذج حياة معتمداً، وأهمية تبنيها في حياة الشعوب والمجتمعات الجديرة بالحياة بكرامة لا يشوبها إذعان، وسيادة لا ينتقص منها جور باغٍ ولا عربدة طغيان، وهي الصورة التي تركت بصمتها واضحة في المكونات التي تحكم الأطر العامة لمحددات السياسة الإيرانية منذ فجر انبثاق الثورة الإسلامية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، ولا شك في أنّ الضريبة عالية والتكلفة باهظة، لكنها تبقى زهيدة مقابل الفوز بمرضاة الله، والتصالح مع الذات عبر قرن القول بالعمل، والانتقال بالأفكار والتصورات العامة إلى خانة الأيديولوجيا المستندة إلى عقيدة راسخة من القناعات وطرائق التفكير التي تُمْنَحُ فيها النفس البشريّة متسعاً لإثبات أهميّة الدور الشخصيّ لكلّ إنسان في تجسيد ثقافة المقاومة، وبلورة قيمها السامية سلوكاً يومياً يجعل من جميع من يتبناها مشاريع شهداء في أية لحظة، وهنا يفعل فعله الإيمان بقوله تعالى: (إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). فالموت سيدرك الجميع ولو كانوا في بروج مشيّدة، وهو خارج إرادة جميع الخلائق: (… وما تدري نفس بأيّ أرض تموت…)، ولا شك في أن هذا الإيمان الراسخ كفيل بدفع أصحاب الهمم وعشاق الحقيقة العامرة قلوبهم بالخوف من الله وحده إلى إثبات وجودهم، وتفعيل دورهم في الحياة بغضّ النظر عن المنغصات والعراقيل والتحديات والمخاطر والتهديدات، وخير شاهد على صحة هذا القول المكانة السامية التي حجزتها إيران الثورة لنفسها حتى اليوم، وما كان لها أن تبلغ عِشْرَ ما هي عليه الآن لو أنها بقيت تدور في الفلك الصهيو ــ أميركي كما كانت عليه أيام الشاه، وهذا ما يلمسه جميع أبناء إيران ويدرك حقيقته العالم أجمع، المؤالف والمخالف بآن معاً. ولذا من العبث أن يفكر أعداء الحق والإنسانية باهتزاز البوصلة الإيرانية بعد المصاب الجلل بارتقاء الشهداء القادة السيد الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته السيد حسين أمير عبد اللهيان ومَن كان معهما رحمة الله عليهم أجمعين.
نعم إنها لمصيبة كبرى وخسارة تفوق الوصف، وقد توزّع الوجع وألم الفاجعة على جميع أنصار الحق والقيم الإنسانية في العالم أجمع، وأستطيع أن أجزم أنّ القلق الذي عاشه جميع أبناء محور المقاومة لم يكن أقلّ مما هو عليه في الداخل الإيراني منذ لحظة الإعلان عن تعرّض طائرة الشهداء القادة لحادث صعب. وقد اتضح بعد العثور على حطام الطائرة أنّ اليقين مشترك لدى الجميع بأن السادة الشهداء ارتقوا إلى بارئهم لحظة انتهاء أعمارهم وآجالهم، ولم يأتهم الموت قط قبل اليوم الموعود والتوقيت المحدد المحفوظ لدى مليك مقتدر. ومثل هذا الفهم الموضوعي والتعامل الإيماني كفيل بتخفيف الكثير من الأوجاع، وفي الوقت نفسه يشكل الحافز المطلوب لضمان استمرار النهج، وإكمال الدرب، والعمل على تحصين عوامل القوة الذاتية والموضوعية أكثر فأكثر وفاء لأرواح الشهداء الذين ارتقوا وكلّ مَن سبقهم في فصول الحروب المتتالية لمحور الشر والطغيان على قيم المجتمع الدولي وإنسانية الإنسان، وما بعد الإعلان عن ارتقاء الشهداء يجعل من كل الأمور الأخرى تفاصيل قد تساعد على اتضاح الصورة أكثر، لكنها لا تغيّر من الحقيقة التي تقول: إن الشهداء غادروا الحياة الدنيا الفانية إلى حيث يليق بهم من رفعة وسمو وسؤدد في فردوس الحق الخالد، وقد يكون من المفيد هنا تسليط الضوء على بعض الأفكار التي تساعد على اتضاح الصورة أكثر، واستشراف معالم الغد المقبل، ومنها:
*المكانة الرفيعة والمسؤولية الكبرى التي كان يشغلها القادة الشهداء هي محطة في مسيرة شهادية مستمرة ومتواصلة، وكذلك ارتقاؤهم إلى الملكوت الأعلى محطة أيضاً، وكما أنهم خلفوا من سبقهم، وأكملوا الدرب ورفع الراية، فسيعقبهم من هم مؤهلون لاستكمال المهمة وتأديتها على أكمل وجه، ولا قلق ولا خوف على النهج وراية الحق.
*إذا كان هناك من يهتم بمعرفة ملابسات ما حدث والوقوف على أدق التفاصيل. فالقيادة الإيرانية هي المسؤولة والمخول الوحيد بفتح هذه الصفحة، وقد يصبح عبثياً ازدحام وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بآلاف الدراسات والتحليلات التي تخلط الغث بالسمين، وبخاصة تلك المسكونة برداء المؤامرة، وكأن إيران الثورة لا تدري بأن أعداءها يتآمرون عليها مع كل شهيق وزفير، وهم يتحسرون في كل مرة على مكدس الخيبات التي يراكمونها جراء النهج الإيراني المقاوم والمعقلن الذي يأخذ بالأسباب، ويعمل على تهيئة ما يلزم لفتح صفحات جديدة من الصمود والمقاومة وزيادة عوامل القوة رغم أنوف طواغيت الكون.
*دولة المؤسسات التي بنتها الثورة الإسلامية في إيران كفيلة بتجاوز هذه المحطة المؤلمة في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد تجلى ذلك بوضوح أمام بصر العالم أجمع عبر تطبيق أحكام الدستور ونقل صلاحيات الرئيس الشهيد إلى نائبه، على أن يتمّ إجراء انتخابات رئاسية دستورية خلال فترة لا تتجاوز خمسين يوماً، كما تمّ ملء الفراغ الخاص بمنصب وزير الخارجية بوقت قياسي. فالمبادئ والثوابت الأساسية التي أرستها الثورة الإسلامية باقية ومحصنة وكفيلة بقطع الطريق على كلّ من يفكر بالاصطياد في الماء العكر.
*ثمرات النهج المقاوم لا تحتاج إلى جهود إعلامية وإعلانيّة لتتدلى قطوفها اليانعة التي تبهج الناظرين، وما الساعات التي فصلت بين الإعلان عن هبوط اضطراري صعب للطائرة التي كانت تقلّ الشهداء القادة وبين الإعلان عن الفاجعة بارتقائهم جميعاً إلا الشاهد الأبلغ على أن ما يؤلم أيّ طرف من أطراف محور المقاومة يؤلم بالدرجة نفسها بقية الأطراف. وكما كانت إيران حاضرة في كلّ الميادين ومسارح العمليات على امتداد جبهات المقاومة من اليمن إلى فلسطين إلى لبنان فسورية والعراق وما هو أبعد من ذلك، وجميع هذه الأطراف وكثيرٌ غيرها مع إيران الثورة الصامدة والقوية المقتدرة القادرة على تحصين هذا المحور أكثر فأكثر ليصبح الجميع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له بقية الأعضاء بالسهر والحمى.
*بقي أن أشير إلى خيبة الأمل لدى كلّ من حاول أن يعزف على وتر التباعد بين دمشق وطهران إلى درجة راحت أحلام اليقظة تسول لبعض لأنفس الحاقدة والشريرة أنّ الهوة قد حدثت بالفعل، والبون يزداد اتساعاً، وما أن تمّ الإعلان عن الحداد في إيران حتى تمّ الإعلان عن حداد ولمدة ثلاثة أيام وتنكيس الأعلام فوق المقار الرسمية في جميع أنحاء الدولة السورية، وفي كلّ السفارات والقنصليات والمباني الدبلوماسية في الخارج، فهذه هي سورية واسطة عقد المقاومة، وهذه هي إيران الدولة الأكبر والأقوى في هذا المحور الباقي والصاعد باتجاه بلوغ المزيد من المحطات المشرقة المضيئة، وردّ كيد الأعداء إلى نحورهم. فالمقاومة اليوم أشدّ قوة وأمتن مراساً وأصلب شكيمة وأكثر تصميماً على تكسير ما تبقى من أنياب الشر والغطرسة التي كشرت وحوشها عنها لتغرزها في قلب هذا الشرق المشرق، وسيبقى مشرقاً ومجسداً لقوله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).
نعم ما حدث مؤلم لكل أقطاب محور المقاومة وأنصار الحق والكرامة الإنسانية… مصيبة جلل… ولن نقول إلا ما يرضي الله فسبحان الحي الدائم بعد فناء خلقه… تقبّلهم الله (مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى