فتحُ الأبواب لكسر الطوق
} جوزيف وهبه*
أن يكتب تلميذ عن أستاذه، أمر طبيعيّ عادي يشبه تسلّل الماء من أعلى إلى مجرى النهر الهادئ فالبحر العميق.
أن يكتب أستاذ عن تلميذه، أمر فيه الكثير من المفارقة والمغامرة والزهو والتواضع، لأنّه لا يأتي في سياق «مَن علّمني حرفاً..»، وإنّما في سياق «.. ولمّا اشتدّ ساعده رماني». فكيف يمكن توصيف ما فعله الأديب «المعلّم» الياس عشّي حين كتب في إصداره الجديد «قرأت لهم، كتبت عنهم.. أحببتهم» عن تلميذه في مدرسة طرابلس الإنجيلية للبنين والبنات الدكتور خالد جمال حول كتابه «لماذا تهوي الطيور»؟
في كتابته عن علاقته بتلميذه «الخالد» كما يسمّيه، يكشف الياس عشّي سريعاً عن سرّ هذه العلاقة، ليس معه فقط وإنّما مع كلّ أترابه من التلاميذ، حيث يقول: «اكتشفني خالد جمال وهو وراء مقعده الدراسي قبل أن أكتشفه وأنا أقف وراء منبر التدريس. هو في ثورته على المألوف، وخروجه عن القواعد. وأنا في التآمر معه، ومع أترابه، ضدّ الذين تآمروا على طفولتهم وإرادتهم وصفاء عيونهم..»، كاشفاً أنّه قد «همس في آذانهم» آنذاك، كلاماً عن الحريّة، ردّده أنطون سعاده، كما ردّده جبران خليل جبران. إذاً، «الحرية» التي طالما عشقها وعبّر عنها الكاتب المعلّم الياس عشّي في حياته، وفي ممارسته لمهنة التربية، وفي كتاباته وإمساكه الشديد باللغة العربية، هي التي فتحت له الأبواب لكسر الطوق ما بينه وبين طلّابه، أكانوا على مقاعد الدراسة، أم تحوّلوا إلى منافسين شرعيّين في عالم اللغة والكتابة والتأليف. وقد انتهى به المطاف، بعد أن طاف في صفحات «لماذا تهوي الطيور» إلى الاعتراف بأنّ الكتاب قد أخذه إلى «عالم الدهشة»، حيث يتداخل فنّ المقالة مع فنّ الأقصوصة، الصورة الموحية وجدارة العقل، الخيال والواقعيّة، القسوة والرحمة.. وإذ ختم «الياس» نصّه الجميل بالوعد: »خالد… أعدك بمستقبل أدبي لافت، فأنا ناقد، وأهل مكّة أدرى بشعابها». ففي ذلك تجاوز لكلّ الأعراف الموروثة، وفي ذلك إنحياز كامل الأوصاف للحقّ والخير والجمال الذين طالما آمن بهم «الأستاذ» الذي تعلّمتُ أنا على يديه، في مدرسة الآباء البيض في القبة، أدب الجاحظ وشعر إبن الرومي وعظمة المتنبّي ونحيب أبي فراس الحمداني في سجنه الانفرادي البعيد! وهو أي «الياس» لم يُعطِ مجد الكلمة لواحد فقط من تلامذته، بل شمل أيضاً في مَن شملهم (تلميذه الآخر) الشاعر المهجري غسّان منجّد، حيث قال فيه: »صدّقوني (ونحن نصدّقه) أنّني ما تصوّرت أن يتحوّل هذا الغسّان الهادئ جدّاً، إلى عاصفة تحمل كلّ رياح التغيير، وكلّ قواعد الثورة..».
الياس عشّي يكتب بحبّ، يقرأ بحبّ.. فليس غريباً أن يكون عنوان إصداره الجديد «قرأت لهم، كتبت عنهم.. أحببتهم». ونحن نعلن ذلك أيضاً، بأنّنا قد قرأنا لك بكلّ هذا الحبّ، ونكتب به عنك ولك!
*إعلاميّ.