ثقافة وفنون

أيها العشيُّ المُشرِفُ على مأدبَةِ الإبداعِ*

‭}‬ روني ألفا**
شيءٌ من قارورةِ إهدائِكَ في مستهلِّ الكِتابِ انسَكَبَ بردًا وسلامًا في ظَمأِ معنويّاتي هذه الأيام، فأَنا مُصابٌ مثلُكَ يا زَميلَ التطريزِ فوقَ دانتيلِ الكِتابةِ بجرثومَةٍ حميدَةٍ طَلَبتُ مِرارًا وتَكرارًا من الأطباءِ المُشرِفينَ على حالتي القوميّة أنْ يترُكوها تنمو بسلامٍ فوقَ مَسامِ بشرَتي هيَ جرثومَةُ فلسطينَ، وصرتُ إذا ما خرجتُ من بيتي رأيتُ جيرانَ الحَيّ يلوّحونَ لي، مِن على باطِيَةِ مدينةٍ بَحريَّةٍ ما أَبِهَتْ يَومًا لِهديرِ البحر، ويشيرونَ إليَّ بأنَّ فلسطينَ تتكاثفُ كالعِربَيشِةِ فوقَ شبّاكِ وجداني. أما أنا فكنتُ وما زلتُ أُبادِلُهم تحيَّةَ الصّباح من خلفِ ورَيقاتِها الخضراء، متوعّدًّا كلَّ مَن يوصيني بِتَشحيلِها أني سَأُشحِّلُ أوراقَ نَصيحتِهِ مِن أغصانِ صباحاتي.
أحِنُّ مثلَكَ يا صَديقي إلى «إنشاءِ» «الأَدْهَمِيِّ»، أتصفّحُ تَرويسَةَ أخبارِهِ دمعةً دمعة وإلى «ليلَى» قال فيها ذاتَ ليلَةٍ شعريَّةٍ «حسيب غالي»: «يا لَيتني كنتُ يا ليلى رداءَكِ كي أطوّقَ الجسدَ المخمورَ باللينِ ويا ليتني كنتُ يا ليلى لسانَكِ كي أمتصَّ ما تَشتهي نفسي وَتُغريني»، وإلى «وقّف يا أسمر في إلكْ عندي كلام» لـ«ميخائيل فَرَح» لم تشفَعْ له قصيدتُهُ في إقناع الرصاصة التي اخترقت جسدَهُ بأن تحبَّ الشّعراء.. رَبَّاهُ يا رَبّاه كم تكرهُ الرصاصَةُ أقلامَ الرّصاص، وإلى «رجائي بارودي» الذي طَلَى بالأبيض حسناواتَ لبنان قبل سبعينَ سنةٍ من أوّلِ مسابقةٍ لِمَلِكاتِ الجمال صادِحًا «أغَيرَ هذا يكون الحسنُ منبتَه من يدّعي بعدُ أنَّ الحسنَ يوناني «فينوسُ» لو رُشِّحت في يومنا لغدت وصيفةً عند حسناوات لبنانِ»، والى شعر «مارون خوري» حبرُه من دَواتِه، وأقلامُ تدوينِه من قَصَبِ حقلِه، وإلى كلِّ من قرأتَ لهم وكتبتَ عنهم وأحببتَهم، منهُم جَميعًا أعلنُ غيرَتي الأدبيَّةَ لا أستَثني منهم أحدًا وأحمّلُهم كما أحمّلُكَ مسؤوليةَ نموِّ جرثومَتي ويكفيني أيها العشيُّ المُشرِفُ على مأدبَةِ الإبداعِ أني ملتقطٌ فُتاتَ أسماءِ العلَمِ المنتشِرَةِ فوقَ غلافِ كتابِكَ عَلَّني أكونُ اسْمَ عَلَمٍ يُقحَمُ عَرَضًا إلى جانب «خالد جمال» الذي أدّبَ العلمَ متأوهًا من انخراطِنا المشينِ في حروبِنا الصغيرَة التي أشاحَت بإبصارِنا عن الانخراطِ في قضايانا الكبيرَة.
وليسَ مِن قبيل المصادَفَةِ يا زَميلي الياس أن يكونَ أقوى ما كتبتَ في كلّ هؤلاء العظماء ما ورد في أسفلِ الصفحةِ التاسِعَةِ والأربَعينَ بعد المئة في كتابِكَ، وفي ظلِّ مفارَقَةٍ يصادفُ فيها رقمُ الصّفحَةِ السنةَ التي شَهِدَت على إعدامِ الزعيم حيثُ تساءلتَ في سبعِ كلمات «وماذا بعد؟ اسألوا أطفالَ الحجارَةِ، اسألوا الشّهداء».
الشهداءُ وحدَهم ينطقونَ بعد موتِهم. كلّ الأمواتِ يصمُتون وتكمُّ الأضرِحَةُ أفواهَهم إلا الشّهداء تتحوّلُ أضرِحَتُهُم إلى مذاييع ورفاتُهُم الى غبارٍ تتعطَّرُ فيها الملائكة كلّما استيقظَت وفَرَدَت أجنحَتَها أمامَ ملكوتِ الله.
إسمحوا لي في هذه الأمسيَةِ أن أرتَديَ مريولَ النادِلِ وأخدُمَ الضُّيوفَ على مائدَةِ فلسطين قبلَ أن يأكلَ الغولُ المنجّمُ بالأبيضِ والأزرقِ الأطباقَ ويصادِرَ لائحةَ الطَّعامِ ويلتهمَ لغتَنا وحضارَتَنا وثقافَتَنا، فنحن أيّها الأخوةُ بأَمَسِّ الحاجةِ إلى حِفظِها أيقوناتٍ مطرَّزَة بالحبّ خوفًا من أن يسرِقَها منّا مَن لا طعامَ له سوى لحومِ أطفالِنا. فأنا لبنانيٌّ عربيٌّ ولدتُ ونشأتُ في ظلال الغول الأبيضِ والأزرق، يأكلُ من صَحني ويشرَبُ من كوبي يُوضاسِيَّةً من كأسِ المسيح ويعصُرُ زيتَهُ من دمي، وكلُّ ما أحلُمُ به هو أن أستيقظَ على تلّةٍ كَفرشوبيَّةٍ لأسمَعَ خاشِعًا قرعَ أجراسِ كنيسة مار جريس في رُمَيش وصيحةَ الله أكبَر تصدحُ من فمِ شِبعا وعيتا الشّعب وأن تكونَ للصّيحَةِ جناحانِ يحلّقانِ بِها إلى فلسطين. صيحةٌ لا تعترضُها قبّةٌ حديديَّة ولا تسقِطُها «أَف ستّةَ عشر» ولا يردعُها جدارُ فَصلٍ عنصريّ. صَيحَةٌ تعبرُ نقاطَ التفتيش وتلفحُ أسرى عسقَلان وبئر السّبع فترقص لها دواوين وروايات ستائر العتمة لوليد هودلي والغيمة السوداء لشعبان حسونة وصَهر الوعي وحكايَة سرّ الزّيت لوليد دقَّة. صَيحَةٌ لا تدميها القنابلُ المسيّلةُ للدموع. صيحةٌ تغطُّ في آخِرِ النّهار على قبّةِ الأقصى وكنيسة المهد وتلقي الله أكبَرِها على حُقراءِ البشريّة في قصفٍ إلهيٍّ يبيدُ السجّان ويحرّر الإنسان.
متى نغضَبُ كَمِثلِ غضَبِ الياس العَشّي أيها السادة؟ متى نعترفُ أننا دُجِّنّا مثلُ فصيلَةِ الكانيش، متى نعترفُ أنّا تَحوّلنا إلى شَلعاتِ الماعزِ ظهورُنا تُركَبُ وضُروعُنا تُحلَبُ، وأننا فقدنا الإحساسَ الجميلَ بالغضب فأذلَّتنا السّكينَةُ المستكينة، وأننا تخلَّينا عن كبريائِنا وصارت دُولُنا تخافُ من الكلمة تيمنًّا بما قاله منصور الرحباني على لسان رفيق علي أحمد في آخر أيام سقراط: «أثينا يا أثينا، أنا واللي متلي عملناكِ أثينا، عملناكِ مدينة الفلسفة والحضارة، السياسيين شَرشَحوكِ، وخلّوا عسكَر اسبرطة المتوحّش يدعّس ترابِك». كتابُ الياس العشّي سكّينةٌ في خاصرَة اسبرطَة ووسامٌ على صدرِ أثينا شرطَ ألا يشرشِحَها السياسيونَ بِنخِّ الرّقاب وأن يسكنَها الجبلُ كما سكَنَ الجبلُ رُبى ميخائيل مسعود وأن نردِّدَ مع الياس العشّي قولَ نزار في الشهداء الأطفال.. «كلُّ لَيمونَةٍ ستنجبُ طفلًا ومحالٌ أن ينتهي الليمون». والسلام!
*كلمة ألقيت في ندوة توقيع كتاب الأمين الياس عشي «قرأتُ لهم.. كتبت عنهم.. أحببتهم» الذي أقامته الرابطة الثقافة في طرابلس برعاية وزير الثقافة.
**مستشار وزير الثقافة اللبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى