ثقافة وفنون

عصارة جهد وفكر متواصل في الكتابة والتربية*

‭}‬ الدكتور نبيل محسن
منذ زمن بعيد وأنا أتمنىّ لو أن الأصدقاء يتشاطرون ما يقرؤنه من الكتب والمقالات في لقاءات أسبوعية أو شهرية ويعرض كل منهم ما تراه للاستخلاص والنقاش. إلى أن فاجأني الصديق الأستاذ الياس بكتابه «قرأت لهم كتبت عنهم أحببتهم» الذي يقدم فيه ملخصاً أو تعليقاً على ما قرأه من كتب ومقالات على مرّ السنوات.
الكتاب عصارة جهد وفكر متواصل على مدى سنوات، ما أن تبدأ بصفحاته الأولى حتى تلتهمه صفحة صفحة، تستعيد ذكريات وتنتبه إلى أمور فاتتك وتكتشف كتّاباً جدداً أو أفكاراً جديدة فيغنيك ويوسّع أفقك بسهولة وإنسيابية ويفتح شهيتك للقراءة والبحث والتفكير.
«ويقول الأستاذ عشي، صدّقوني أن العودة إلى القراءة، والتجول بين صفحات الكتب وإقامة جسر تواصل بين الكلمات قد يكون الحل للخروج من التفاهة والتسطيح شرط أن تكون المقروءات على سوية من العقل والإبداع والاستشراف والأناقة (ص 26 للكلمة زي أدبي أنيق).
فكيف نتناول بالنقاش كتاباً لا يتمحور حول فكرة أو موضوع محدد. الموضوعات في الكتاب متنوّعة وللشعر الحصة الكبرى. فالأستاذ عشي كتب عن المتنبي وأبو فراس وأبو النواس، وعن أدونيس وسميح القاسم ومحمود درويش وأنسي الحاج ويحيى جابر وخليل حاوي، إضافة إلى موضوعات عن الرواية والصحافة والثقافة والفكر والسياسة.
إن فعل الكتابة عند الأستاذ الياس عشي هو فعل يومي، هو فعل وجودي وفعل مقاوم، التزام وجداني بقضايا الفكر واللغة والوطن والأمة، لم يحمل بندقية لكنه امتشق قلماً يقوله في أحد الفصول.
الكتابة يا صديقي هي المساحة الوحيدة التي نمارس فيها حريتنا وطموحاتنا وصراعاتنا من أجل غد أفضل (ص 109).
والأستاذ عشي يذكر في عدة فصول من الكتاب وفي سياقات مختلفة سقراط، وابن المقفع، والحلاج، وسعاده.
فسقراط تمّت إدانته بإفساد الشباب والإلحاد، ورفض طلب العفو كما رفض الهرب وقبل تجرُّع السم. وابن المقفع مجوسي من أصل فارسيّ اعتنق الإسلام من أعماله الخالدة كتاب «كليلة ودمنة» المأخوذ من كتاب الباشا تانتوا الهندي، قُتِل إبن المقفع على يد والي البصرة أثناء فترة حكم الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور.
قُتِل إبن المقفع بتهمة الزندقة، وتظاهره بالإسلام وهو في مقتبل العمر بعد أن خلّف آثاراً هامة عن الثقافة الفارسية واليونانية والعربية والهندية.
والحلاج (858 ـ 922) قُتِل أيضاً بتهمة الكفر والزندقة. الخليفة المقتدر بالله أمر بإهدار دمه ورغم قول البعض بأصوله الفارسية إلا أنه عراقيّ المولد، كان يجول في البلاد ويدعو إلى أفكاره وفلسفته فكثر أتباعه في العراق وأثار حفيظة قاضي بغداد الذي رأى أن أفعال الحلاج وأقواله تتعارض مع الإسلام فأهدر دمه.
أما سعاده فقد كانت تهمته عدم الاعتراف بالكيان، حوكم على عجل وأعدم على عجل. ومعروف أن الحزب كان منذ تأسيسه معادياً للانتداب الفرنسي، وأن الحزب شارك في محاربة الكيان الصهيوني منذ 1948 وتاريخ الحزب في ما بعد بالمقاومة معروف.
هي هي الشخصيات التي تأثر بها الأستاذ عشي، إنها شخصيات تراجيديّة، إنه الموت التراجيديّ، إنّها شخصيات تتصف بالسموّ، فكرها مؤثر وسلوكها مثالي، تحمل تبعة أفكارها وتصرفاتها وتتمادى في الدفاع عنها ولا تتراجع عنها حتى الموت. والموضوع هو دائماً موضوع وجوديّ يتمثل بالعقيدة الدينية أو القومية أو مبدأ أخلاقي، والموت هو الذي يخلّد الفكرة والعقيدة.
هذه هي رؤية الأستاذ عشي للفكر وهذه هي رؤيته للالتزام.
التزامه بالوطن والقومية واللغة العربية وبالمقاومة التزام فطري وجداني قبل أن يكون التزاماً عقائدياً، والعقيدة تجعله محاوراً وصديقاً لا مناكفاً او خصماً.
يتحدث عن سعاده في أكثر من فصل: أنطون سعاده ناقداً وأديباً، والمعرفة عند سعاده فعل للمستقبل، الأفق الجمالي في جرح تموز.
وهناك فصلان لا بد أن أشير إليهما في مصافي معلم التربية الأولى هو عن ثلاث عشرة قاعدة لتكون معلماً مثالياً والثاني عن دور المدارس في تجذير التعصب الطائفي.
فبعد خمسة وأربعين عاماً قضاها في التعليم يوجز الأستاذ عشي خبرته في ثلاث عشرة قاعدة تعبيراً عن النظريات وينصح الأساتذة بعدم الصراخ أو الضرب عن الطاولة والابتعاد عن الكلمات الجارية والاهتمام بالتلميذ الضعيف بقدر المتفوقين بل أكثر، عدم التميّز بين التلاميذ وعدم التشهير بأي تلميذ، وينصح الأساتذة بالتمعن بالمعلومات العامة وأن يكون المعلم مشبعاً بمعلومات في التربية والثقافة.
الواقع أن الأساتذة الذين ما زلت أذكرهم من المدرسة في القرن الماضي هم الذين فتحوا أمامي أفق الثقافة والقراءة وأنا لا أذكر ماذا تضمن الكتاب المدرسيّ ولكني أذكر ما زرعوه فيّ من حب للمعرفة والقراءة والاطلاع.
وأذكر منهم مثلاً الأستاذ فاروق عيسى الخوري الذي خصّص له أيضاً الأستاذ عشي فصلاً في كتابه، وفاروق عيسى الخوري ترجم إلى العرب ودقق كتاب زيغرير هونكه شمس العرب تسطع على الغرب الذي يتناول الحضارة العربية وأثرها على العالم ومفهوم التقاء الحضارات. وله كتاب آخر لا بد من ذكره في هذا السياق وهو بعنوان «ملامح من الحركات الثقافية في طرابلس» خلال القرن التاسع عشر صدر عام 1982 ويتناول المدارس في طرابلس والجمعيات الأدبية والمسرح والصحافة والشعر.
والفصل الأخير الذي أودّ الإشارة إليه هو عن دور المدارس في التعصب الطائفي، إذ بفعل التركيبة الطائفية والديموغرافية في لبنان مع تراجع سلطة الدولة أمام سلطة الطوائف أصبح لكل طائفة ومذهب مدرسة خاصة به. هل المطلوب من هذه المدرسة أن تخرّج طلاباً علمانيين؟ بفعل التطور الهابط للمجتمع اللبناني أو التراجعية، يمكن القول إن المطلوب من هذه المدرسة أن تخرّج طلاباً طائفيين يمكن استغلالهم في المواجهات بين الطوائف وزعماء الطوائف والأحزاب. فكيف السبيل إلى أجيال وطنية لاطائفية، بالمدرسة الرسمية والمدرسة الوطنية من خلال منهج موحد، من خلال علمنة المدرسة؟ وهذا الموضوع يناقشه الأستاذ عشي في الفصل المذكور ويستعرض أراء طلابه القدامى في الألفة والُلحمة بين مكونات الوطن.
لقد استعرضت بعضاً مما استوقفني في كتاب الأستاذ إلياس عشي والكتاب ممتع بحكم تركيبته، يمكن أن تبدأ قراءته من الفصل الأخير.
شكراً أستاذ عشي لأنك جعلتني أقرأ عن أدونيس ودرويش وسميح القاسم ونزار قباني وخليل حاوي وفاروق عيسى الخوري وغيرهم في كتاب واحد.
*كلمة ألقيت في ندوة توقيع كتاب الأمين الياس عشي «قرأت لهم.. كتبت عنهم.. أحببتهم»، في الرابطة الثقافية في طرابلس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى