ثقافة وفنون

سفر انتماء لوطن مسوّر بالورد*

‭}‬ الدكتور محمد نديم الجسر

إذا كان الإيجاز واللّمح يستهويان الأستاذ الياس، ويرى فيهما عبوراً إلى الألفة بين الكاتب والقارئ، وهو يجد في المداخلة المطوّلة مهما كان موضوعها هاماً وضرورياً ما يسبب الضجر، إلا أن إيفاء مسيرة عطاء يحتاج قطعاً إلى أكثر من دقائق معدودة.
فنحن ومهما استفضنا، نبقى مقصّرين في سعينا لإيفاء حافظ اللغة العربية، جيلاً بعد جيل، حقّه على طرابلس وعلينا نحن أبناء طرابلس الشام.
أستاذ الياس، بعد أن أنهيت قراءة متأنية لكتابكم، «قرأت لهم كتبت عنهم أحببتهم»، أول ما تبادر إلى ذهني السؤال التالي: ماذا أحبّ الأستاذ الياس في هذه الشخصيات المتميّزة زماناً ومكاناً وأسلوباً؟ فخلصت إلى أنك أحببت «المثال».
ومثالك هو أولاً أديب بما يفكر به، لا يهرب، يبقى في المكان مسرح الأزمة، ويترك بصماته على مستقبل الوطن الذي يحلم به ويريده. وهو مثقف محاور لا يعيش على الهوامش، ولا على أطراف وطنه، ولا يتلقّى الأوامر، ويحترم التراث دون أن يتحنّط فيه.
وهو كاتب يرى في الكتابة أشرف مهنة في الوجود، ويشخّص القلم رسول محبة من الطراز الأول. وهو فيلسوف يسأل، فالحَجْر على السؤال عنده هو حَجْرٌ على العقل.
ومثالك إنسان ينتمي، ويؤمن أن الانتماء هو الحجر الأساس في قيام الحضارات وديمومة الأوطان. لذلك فهو مصرّ على البقاء في أرض الوطن المسوّر بالورد والبحر والزرقة والبراءة والحبّ والتواضع.
الغربة عنده فجيعة. فما معنى بيت يسكنه في أقاصي الأرض، بيت لا جدران حوله ولا ذاكرة فيه؟ والانتماء عنده فعل إرادة وفعل تغيير وفعل مواجهة. وهو مشرقيّ ينتمي إلى لسان عربي مبين، يُباهي به ويُتقنه ويتغزّل بمفرداته ويغوص على درره.
ومثالك يحمل أمانة الخطاب ويعتقد أنه إذا لم نكن قادرين على إحداث فرق، فإنّ كل ما نكتبه يموت في الحال.
فليس المهم ما نقوله، أو ما نكتبه، إنما المهمّ أن نختار الكلمة المناسبة والأسلوب الملائم لإيصال أفكارنا إلى الناس.
ومثالك عاشق بامتياز. عاشق أولاً للحقّ، فهو عنده نبراس. والحق في يقينه يُصان بالقوة، فمن له القوة له الحق، ومن لا قوة له لا حقّ له. هو لا يتقاعد في الدفاع عن الحقّ، فالشعراء والكتّاب والمفكّرون الذين لا يخرجون إلى الشوارع ولا يهتفون، يصبحون جزءاً من مقاهي الأرصفة، تختلط أصواتهم بأصوات الأراغيل. وكل مفكر يتقاعد يخرج من دورة الحياة.
وهو عاشق للحرية فهي في معتقده مقصدٌ ومرام. ويرى في الحريّة شرطاً واجب الوجود. فإن لم تكونوا أحراراً في أمّة حرّة، فحريات الأمم عارٌ عليكم، وهو يؤمن بأن الصراع بين الحرية والعبودية هو صراع أبديّ لن يتوقف، والذين يموتون من أجل قضية يؤمنون بها هم وحدهم الأحياء، وهو عاشق مدينته.
فالمدن عنده كالبشر، يتماهى البيت مع البيت، والسقف مع السقف، فتنمحي الحدود وتصير العائلات عائلة واحدة في وطن واحد.
وهو إذا ما تفيّأ ظلال مدينته، لم يشعر قط بالغربة، تحييه رائحة التراب والمطر والليمون وماء البحر وملحه وصوته.
ومعشوقته مدينة اللسان العربي، مدينة العلماء، لا ولن يستطيع أحد أن يغلق نوافذها ويمنع عنها الهواء. إن نزلت بها النوائب فلا ريبَ هي عائدة لتكون سيدة المنابر، تلقي عباءتها الوردية على كل مَن عاش فيها.
ومثالك يعتنق مكارم الأخلاق ديناً ومذهباً ومنهجاً. والأخلاق عنده تبدأ عند الحاكم: بل الحكم يا ولدي يحتاج إلى أخلاق.
ولا تتميّز النخب الفكرية والعلمية إلا بالأخلاق، لا بل إن مكارم الأخلاق وحسن الذوق ودماثة الخلق، هي العناوين الأساسية للأدب، وهي ناموس من يتولى الإعلام والتوعية.
وأي سيئة أسوأ من إعلام مأجور؟ ومثالك مقاوم، هو مقاوم بجبلته وكينونته وماهيته، يقاوم أصوات النشاز التي تعلن الحرب على موهبة الانتصار.
لا يهادن أحداً، عيناه مغروزتان في الشمس، لا يبكي، لا يستغيث، لا يقف على أطلال الهزيمة، لا يتلفت إلى الوراء، يوجه أصابع الاتهام إلى من صنعوا الهزيمة.
ومثالك عنده فلسطين هي القضيّة، وهو يعشق فلسطين بعشقه لسورياه، أما لبنان، فسكن عينيه والموت في سبيل القضية شهادة وهو شرط لانتصار كل قضية.
يا لذلك الرمضان الجميل الذي من بوابته عبر ألوف الشهداء إلى الحرية والنصر، لأول مرة على الكيان الغاصب، وتعساً لرمضان اليوم المنهمك بلملمة فوضى التطبيع مع العدو.
وفلسطين هي وطنه أين ما كان مسقط رأسه. ووطنه سيد ذو عزّة وكرامة، فما فائدة الحرية إذا كان الوطن مطارداً ومرتهناً لإرادة دول أخرى؟
تراه هائماً في ربوع هي منبت العز يصرخ: أتعرف مَن أنا؟
أنا طفل من فلسطين، قتلوا أخي بدم بارد، لأنه رفض أن يخرج من بيته، فهدموه على رأسه. وسجنوا أمي وعذّبوها واعتدوا عليها، أتبع النجمة التي ستقودني إلى بيت لحم والناصرة والقدس لأشارك في إقامة أقواس النصر.
الخنوع لديه عار وخيانة. والتاريخ مهما زُوّر لن يرحم، فجريمة الشرف التي سكت عنها أمراء البداوة وشيوخ الجاهلية، الرائعون في الملذات، كلهم في غيبوبة إلى أن يُقتل آخرُ طفل في سورية وفلسطين والعراق ولبنان، فها سنابك المغول عادت إلى بغداد، وفلسطين مطروحة في مزاد علني في أسواق النخاسة العربية.
التطبيع عنده ليس وجهة نظر موضوعية، بل هو انضواء ضمن القطعان وفقد الإحساس الجميل بالغضب، وتخلٍ كلي عن الكبرياء.
أما بعد، قرأت ما كتبت فأعجبني المثال الذي هُمتَ به أنت في كتابك، بحثت له عن اسم، فتضوع الليلك في الدروب. «سلامٌ على إل ياسين».
*كلمة ألقيت في ندوة توقيع كتاب الأمين الياس عشي «قرأت لهم.. كتبت عنهم.. أحببتهم»، في الرابطة الثقافية في طرابلس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى